التلمذة الديناميكيّة: ما وراء المؤسستيّة والفردانيّة
نوفمبر 24, 2022
مدوّنة خاصّة بعيد الميلاد من كليّتنا
ديسمبر 22, 2022

رسائل العهد الجديد شهادة عن التعلّم عن بُعد

بقلم داستن إلينغتون

انضممت مؤخرًا إلى هيئة التدريس في كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة، وبالنظر إلى النموذج المدمج الجديد لـمنهاج الكليّة، سُئلت عدّة مرّات عن شعوري حيال بدء التدريس من مسافة. كشخص أحبّ كونه محاضرًا بشكل شخصي في العهد الجديد في كلية اللاهوت لمدة اثني عشر عامًا في زامبيا وخمس سنوات في مصر، وكأستاذ فرح بحضور الطلّاب داخل الفصل الدراسي وخارجه كلّ يوم، كان لابدّ من مواجهة هذا السؤال المهم. لماذا يمكن أن أكون منفتحًا على التحول نحو التعليم المدمج والتعليم عن بعد، حيث يكون الطلاب حاضرين شخصيًا فقط جزءًا من الوقت؟

في هذه المدوّنة، أود أن أعرض أمرًا واحدًا ومحدّدًا كان مصدر تشجيع لي عندما بدأت التفكير في الانتقال نحو نموذج التعليم المدمج والتعلّم عن بُعد: في الواقع، العهد الجديد نفسه شهادة أنّ الخدمة الفعليّة والتعليم غالبًا ما كان يحدث عن بُعد، وذلك لأنّ 22 سفرًا من أصل 27 سفرًا من العهد الجديد هي رسائل مكتوبة بهدف التعليم والخدمة عن بُعد.

في بعض الأحيان ينجر الناس إلى الاعتقاد أنّ التعليم عن بُعد ليس تعليمًا حقيقيًا. ولكن من يمكنه القول أنّ الرسول بولس حين كتب الرسالة ليعلّم ويشجّع المؤمنين في روما، لم يكن يشجّعهم ويعلّمهم ويخدمهم على نحوٍ حقيقي وفعّال في حياتهم؟

في العالم القديم (على غرار اليوم)، كانت الرسالة وسيلة تجمع الناس مع بعضهم رغم تباعدهم جسديًا. لقد أسّس بولس كنائس. لقد كان هدفه نمو هذه الكنائس وغيرها وتشكيلها لتشابه صورة المسيح، على أمل أن تصبح هذه الجماعات نفسها مراكز خدمة وإرساليّة. غير أنّ بولس لم يستطع أن يكون حاضرًا جسديًا مع جميع هذه الكنائس لأنّ الرعايا كانوا منتشرين على نطاق واسع وبعيدين عن بعضهم البعض. فكتب بولس الرسائل ليكون حاضرًا بواسطتها مع هذه الكنائس. من خلال الرسائل والمرسلين (كانت الكنائس ترسل له التقارير أيضًا، انظر 1 كورنثوس 7: 1)، كان بولس وهذه الكنائس يقومون بنوعٍ من أنواع التعلّم عن بُعد.

غالبًا ما كانت المسافة بين كتّاب الرسائل وجمهورهم أمرًا مفروضًا عليهم. على الرغم من أنّ بولس كان يفضّل الحضور جسديًا وسط المؤمنين، لم يتمكّن من زيارتهم عندما كان مسجونًا. ويوحنا كان في جزيرة بطمس، تفصله المياه عن رعايا الكنائس في آسيا الصغرى الذين كتب لهم رسالته الطويلة (نعم، سفر الرؤيا هو رسالة، انظر رؤيا 1: 4، 9-11، 22: 21). غير أنّ البعد كان نوعًا من الاستراتيجيّة. كانت الخدمة عن بُعد طريقة لتعليم وتدريب وتشجيع أشخاص مفتاحيين في كنائسهم من حيثما وجدوا، في سياقاتهم الخاصّة، من دون الحاجة أن يتركوا حياتهم وخدمتهم (تيطس 1: 5). كانت الرسائل تنتقل أسرع من الأفراد عبر الشبكات الاجتماعيّة. كان انتشار المؤمنين عبر عالم البحر الأبيض المتوسط ذا قيمة لا تُقدّر لانتشار الإنجيل.

لا تشهد الرسائل في العهد الجديد على أنّ الخدمة والتعليم يمكن أن يحدثا عن بُعد فحسب، بل تقدّم أيضًا بعض التوجيهات لنا نحن الذين نسعى للتأكّد من أنّ التدريس والتعلّم عن بُعد فعّالان:

أولاً، نلاحظ أنّ بولس (وإن لم يكن بولس فقط) لا يركّز فقط على المعرفة في رسائله، ولكن أيضًا على علاقته مع جمهوره (2 تيموثاوس 3 :14). يُظهر محبّته وشوقه لهم (فيلبي 1: 3-8؛ 1 تسالونيكي 2: 17-18) وتقديره لهم (فيلبي 4: 14-15). أدرك بولس أنّ الخدمة والتعليم عن بُعد يتطلّبان تنمية ليس فقط للمعرفة بل للعلاقة أيضًا (رومية 1: 11-12). العلاقة التي تتميّز بالمحبّة تساعد على تطوير المعرفة. لم يتحدّث بولس عن المعرفة كغاية في حدّ ذاتها، لكنّها كانت ذات أهميّة كبيرة بالنسبة له عندما تكون مصحوبة بفضائل مثل المحبة (1 كورنثوس 8:1 ؛ فيلبي 1: 9؛ كولوسي 1: 9-10). يمكننا أن نضع هذا في الاعتبار في مقاربتنا لطرق التعليم عن بُعد التي تنمّي العلاقات بين المعلّمين والطلّاب.

ثانيًا، نرى أنّ بولس كثيرًا ما يبني رسائله على الوقت الذي قضاه مع الكنائس في الماضي، ويشاركهم آماله المستقبليّة في آنٍ معًا. وهو يدعو جمهوره إلى تذكّر الفترات التي كانوا فيها معًا (1 تسالونيكي 1: 4-10؛ 2: 9-12). أسّس بولس الكنائس بنفسه، وزار الكنائس شخصيًا بقدر استطاعته. وهو يكتب لهم الرسائل يقول لهم أنّه يتوق لرؤيتهم مرّة أخرى، ويصلّي ويحاول رؤيتهم مرّة أخرى (1 تسالونيكي 2: 17-18؛ 3: 10-11؛ قارن 2 يوحنا 1 :12). تشير كلمات بولس حول الزيارات السابقة والمستقبليّة إلى أنّه يميل نحو التعلم “المدمج” أكثر من الاتجاه نحو التدريس فقط عن بُعد. وعلى النحو نفسه قد يكون تعليمنا عن بُعد أكثر فاعليّة عندما نبني على الوقت الماضي الذي قضيناه معًا، وأيضًا عندما نتطلّع إلى الأوقات المستقبليّة معًا.

ثالثًا، لعبت رسائل العهد الجديد دورًا مهمًا في الخدمة عن بُعد حيث كانت الرسائل تنتقل بين مختلف رعايا الكنائس، لقد طوّرت هذه الرسائل علاقات بين هذه الجماعات المتعدّدة. العلاقة ليست فقط بين الكاتب والجمهور (1 تسالونيكي 3 :12). حثّ بولس أهل الكنائس على قراءة الرسائل بصوتٍ عالٍ (كولوسي 4 :16؛ 1 تسالونيكي 5 :27؛ رؤيا 1: 3). ركّز محتوى الرسائل على ممارسة الإيمان المسيحي في سياقات الجمهور (عبرانيين 10: 24-25). فيما كانت الرسائل تُقرَأ وتُناقش بين مجموعات المؤمنين، كانت هذه الرسائل تلعب دورًا في تشكيل المجموعات بصورة مستمرّة. كذلك عندما ينخرط الطلّاب اليوم في التعليم اللاهوتي عن بُعد، يمكنهم أن ينمو معا عندما يتفاعلون مع بعضهم البعض ويتجاوبون مع محتوى مقرّراتهم الدراسيّة، ومن خلال إشراك مجتمعاتهم المحليّة في محادثات حول ما يتعلّمونه. تساعد حواراتهم وعلاقاتهم مع بعضهم البعض في تسييق الإيمان المسيحي في أماكن خدمتهم.

في كلّ ما ورد آنفًا، نرى أنّ الرسائل تنطوي على العلاقات وتخدمها. أدرك بولس وكُتَّاب العهد الجديد الآخرون أنّ الروابط يمكن أن تتجدّد وتتوطّد عن بُعد من خلال الرسائل. وهذا ينطبق على العلاقة بين الكتّاب وجماهيرهم وأيضًا على أولئك الذين يقرؤون الرسائل معًا.

غير أنّ هذه الفرصة لتعزيز الوحدة من خلال الرسائل كثيرًا ما تنطبق أيضًا على علاقة الجمهور بالله. كتب كتّاب العهد الجديد لأنّهم آمنوا أنّه على الرغم من بُعدهم عن المتلقين شيئًا ما سيحدث بين الله وقرّائهم عندما تُقرأ رسائلهم وتُفهم وتُمارَس (2 كورنثوس 6: 1-2؛ 12 :19؛ 1 بطرس 5: 12). وبالتالي يركّز بولس باستمرار على يسوع المسيح حيث استطاع أن يذكر يسوع المسيح ما يصل إلى عشر مرّات في تسع آيات فقط، ما يدلّ على أنّ العلاقة التي كان بولس يأمل في تطويرها من خلال كتابته كانت علاقة الجمهور بيسوع المسيح (1 كورنثوس 1: 1-9). علاوة على ذلك، كما يتضح من إلقاء تحيّات النعمة والبركات على الجمهور، كان من المفترض أن تكون قراءة الرسائل حدثًا يجري في حضور الله، لقاء بين الجماعة والله (2 كورنثوس 1: 2؛ 13 :14؛ عبرانيين 13: 20-21؛ رؤيا 1: 3).

يحسن بنا أن ننتبه إلى هذا التركيز العلائقي في كتابة رسائل العهد الجديد عندما نفكّر في كيفية أن نكون فعّالين في التعليم عن بعد. أقلّه تساعد الروابط العلائقيّة في إبقاء الناس منخرطين في برنامج أكاديمي. لكن التركيز على العلاقات يجلب أيضًا نموًا عميقًا للطلّاب في علاقاتهم مع معلّمي الإيمان، ومع بعضهم البعض، وبخاصّة مع الله من خلال يسوع المسيح.

رسائل العهد الجديد هي شهادة قديمة لكنّها حية أنّ التعليم الحقيقي والخدمة والعلاقة والنمو يمكن أن يحدثوا عن بُعد. لا أريد أن أقول إنّ أعضاء هيئة التدريس في كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة هم تمامًا مثل الرسل الذين يكتبون العهد الجديد، لكنّ الرسل هم نماذج تشير إلى طريق يمكننا أـن نحتذي به. تساعد رسائلهم في إثبات أنّ ما نحاول القيام به في الكليّة ممكن، وأنّه يمكن أن يكون تعليمًا حقيقيًا وفعّالًا.

وجد كتّاب العهد الجديد، من خلال رسائلهم، طريقة ليكونوا من خلالها حاضرين مع جماهيرهم ونقل حضور الله إليهم. إنّ شهادة الكتاب المقدّس الغنيّة لبنيان شعب الله وتعليمهم عن بُعد هي أحد الأسباب الرئيسة التي جعلتني قادرًا على ترك كلية لاهوت تُدرّس حضوريًا والانضمام إلى كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة لأنّها تركّز أكثر على التعليم والتعلم المدمج.

 

ملاحظة أخيرة: بعد الانتهاء من هذه المدونة، علمت بوجود منشور سابق على صفحة الكليّة يغطّي موضوعًا مشابهًا ويتضمّن أفكارًا جديرة بالملاحظة. أوصي بقراءته: تشكيل المجتمع عن بُعد: دروس من بولس.

 

داستن هو أستاذ مساعد في دراسات العهد الجديد في كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة وقد وصل حديثًا إلى لبنان وانضم إلى هيئة المدرّسين في الكليّة.

اترك رد