بقلم غريس الزغبي
إنّ السياق الذي حدث فيه عيد الميلاد الأول جذّاب للغاية، وملهم جدًا، ويدعو للتحوّل والتغيير. هذا أيضًا هو السياق الذي ولدت وترعرعت فيه. في الشرق الأوسط، يتم الاحتفال بعيد الميلاد ثلاث مرّات سنويًا: 25 كانون الأوّل/ديسمبر وفقًا للتقويم الغريغوري، و7 كانون الثاني/يناير وفقًا للتقويم اليولياني، و 18 كانون الثاني/يناير وفقًا للأرمن الأرثوذكس في الأراضي المقدّسة. إذا كنت على دراية بالفكرة الغربيّة “اثني عشر يومًا من عيد الميلاد”، فإنّنا تغلّبنا على ذلك في الشرق الأوسط ونستمتع بتذوّق شهرًا كاملاً من احتفالات عيد الميلاد، ما يعكس التعبيرات المختلفة للمسيحيّة. في هذه المدوّنة، اسمحوا لي بأن أخذكم في رحلة ومشاركتكم بعض الأفكار اللاهوتيّة التي كنت أفكّر فيها هذا الموسم بشأن المواقع الجغرافيّة المختلفة للميلاد.
في الناصرة، إحدى بلدات الجليل، قالت فتاة شابّة من الشرق الأوسط “نعم” عندما أعلن لها الملاك جبرائيل أنّها ستصبح أمّ ربّنا. حقًا، “خرج من الناصرة أمر صالح”! كلمات نابعة من الإيمان، وبلا أدنى شكّ، من المرأة الوحيدة التي حبلت بابنها بقوّة الروح القدس، وليس بإرادة رجل. تعكس لي طاعة مريم الاستجابة لدعوة الله في ظروف غير متوقّعة. تساعدني قصّتها على فهم دعوة الله النساء والرجال لتحقيق مقاصده. على مرّ السنين، استمرت “تسبحة” مريم في ترداد صدى الاستجابة لدعوة الرّب وتعضيد الله للفقراء والضعفاء.
ومن الطبيعي – أو بصورة خارقة للطبيعة، يجدر أن أقول – بعد تسعة أشهر من مشهد البشارة هذا، نجد أنفسنا في حقل الرعاة حيث تمّ الإعلان عن رسالة ولادة المسيح لأوّل مرّة لرعاة متواضعين ولكن يقظين. صُعق البشر العاديون بنور عظيم وهم يحرسون أغنامهم في الجوار، وجاءتهم رسالة الأخبار السارّة. هذه المنطقة الجغرافية، المعروفة باسم بيت ساحور أو بيت السهر، الواقعة على بعد 3 كيلومترات جنوب بيت لحم، أخذت اسمها من يقظة رعاة الأغنام منذ ألفي عام.
تلقى الرعاة علامة من السماء وذهلوا برؤية الطفل. جميع الأطفال يدعونا للاندهاش، لكن هذا الطفل كان مختلفًا: لقد كان الله المتجسّد. أعترف أنّني ما زلت لا أستطيع فهم ذلك تمامًا. علينا أن نرى قصّة عيد الميلاد بعيون الإيمان. كان هذا الطفل المولود في بيت لحم هو الراعي الصالح الذي يعرف خرافه ويدعوها باسمها (يوحنا 10: 3، 14).
في “ملء الزمان” (غلاطية 4: 4)، صار الله القدير، الرّب، إنسانًا ووُلِد في بيت لحم، التي تعني “بيت الخبز”. بكلّ تأكيد، هو الخبز الحي الذي نزل من السماء (يوحنا 6 :51). إنه هو الذي يجب أن نجوع ونعطش إليه. لقد أصبح إنسانًا ويتماهى معنا في آلامنا التي تتخذ صورًا عديدة. في عالمنا اليوم، يزداد الفقراء فقرًا الأغنياء غنًى، يزداد الضعفاء ضعفًا والأقوياء قوّة. لنأخذ على سبيل المثال الغزو الروسي المستمر لأوكرانيا، والدمار الذي يخلّفه على العديد من المستويات بما في ذلك آثاره المتتالية في منطقتنا. غير أنّ يسوع يقدّم نموذجًا مختلفًا. لقد أصبح فقيراً ليغنينا، و”يرفع الضعفاء” ليقتربوا من العلي. إنّه يمنح الرجاء، لا سيّما ونحن نتأمّل العذاب والظلام في العالم.
إذا سافرنا شرقًا، يمكننا أن نبدأ في تخيّل المجوس القادمين إلى بيت لحم، متّبعين النجم. يتكهّن البعض أنّهم ربّما أتوا من بلاد فارس، إيران الحديثة. لن أتفاجأ. الهدايا الثلاث التي قدّموها هي تمثيل لهويّة المسيح وتوقّع من سيكون. اللبان لكهنوته الملكي، والمرّ لألمه الكفّاري، والذهب لملكوته الأبدي.
ونعود مرّة أخرى إلى بيت لحم. وفيما نشعر بالاندهاش من التاريخ المذهل للمكان، كتب متّى المسكين، أب الصحراء الحديث: “إذا كانت جنة عدن هي مسقط رأس آدم في العصور القديمة، جدّنا الأوّل، فإنّ بيت لحم تستحق أن تكون جنّة عدن الجديدة.”[1] غير أنّ بيت لحم اليوم ليست ورديّة. يجب ألا أخفي واقع إصابتي بالإحباط عندما أفكّر في كثرة الظلم والحقائق المحبّطة على الأرض، والحريّة المقيّدة التي نعيشها ونحن نصارع. لكني آمل أن تذكّرنا ولادة المسيح بأنّنا نستطيع أن نضيء في مكان مظلم لأنّ الظلمة لا تستطيع استيعاب قوّة نور المسيح. لدي رجاء لأنّ المسيح عاش بيننا ولأنّ المسيح يحيا فيّ. كما عبّرت صديقتي العزيزة، الباحثة مويرا ديل، عن ذلك بينما كانت تكافح سرطان الرئة في المرحلة الرابعة، “الرجاء هو أن نحيا اليوم مهدّفين نحو الغاية النهائية، عالمين أنّ نهاية القصّة، قصة الله عبر الزمن، صالحة، وهذا ينعكس في حياتنا و ثقتنا الآن”.[2]
وما بعد عيد الميلاد، ترك المسيح أيضًا، طوال حياته، آثار أقدامه في أماكن مختلفة خارج إسرائيل القديمة: “من مصر دعوت ابني” ، وكان معروفًا على شواطئ صيدا وصور بأنّه صانع المعجزات … ربما يكون ذلك لمحة صغيرة تُنذر باسمه الذي سيجوب الأرض كلّها في الأجيال القادمة. كم هو رائع حقًّا!
آمل أن تكون جولة عيد الميلاد التي رسمتها أعلاه، والتي تغطّي الناصرة وبيت لحم وبيت ساحور وبلاد فارس ومصر ولبنان، مشجّعة للقارئ “ليأتي ويرى”. تكشف لنا جغرافيا “الأرض المقدّسة” وحتّى الدائرة الأوسع للشرق الأوسط عن رؤى جديدة لنا. تتحدّانا لنفكر بعمق أكثر وغنى أكثر في التطورات التي تحدث في المنطقة من حولنا. إن كان المسيح قد سار في أرضنا وعاش في وسطنا، فأين قوة المسيح فينا؟ كيف تتجلّى في عيد الميلاد هذا العام؟ تفتح حياة المسيح أعيننا على حقائق لا يجب أن نتغاضى عنها أبدًا. وهذا يدفعنا إلى أن نكون جادين بشأن رسالتنا ودعوتنا.
اسمحوا لي أن أقدّم فكرة ختاميّة حكيمة للأب متّى المسكين. يقول، “إذا توقّف المرء عن الشعور بدفء مجد الله الذي منحه إيّاه المسيح، فليتأكّد من أنّه قد ترك مجال حضوره.”[3]
يجب أن أتوقّف هنا وأسأل نفسي ما إذا كان هناك أي شيء يمنعني من الشعور بدفء مجد الله. أي شيء … تعمّق فيه للحظة. سيكون هذا في الواقع قراري في السنة الجديدة، ألا أنجرف أبدًا عن “دفء مجد الله”. إنّها ليست نظريّة أو فكرة مجرّدة، إنّها تعني أن أعيش حياة تكرم الرّب في كلّ شيء. في ضوء ذلك، أودّ أن أشجّعك على التفكير في قرار السنة الجديدة الخاص بك، أينما كان موقعك الجغرافي. قد يكون أمرًا على غرار أن تدرك أنّ الرّب قريب، عمانوئيل، الله معنا، ولا “تترك مجال حضوره” أبدًا.
سنة جديدة سعيدة ومباركة لكم ولعائلاتكم.
غريس الزغبي من بيت لحم. تحب اللاهوت ولا تتوّقف عن الانبهار بطفل بيت لحم، مخلّص العالم.
[1]http://orthokairos.weebly.com/uploads/5/7/3/1/57311059/the_birth_of_christ_in_our_life.pdf
[2] https://www.fixinghereyes.org/single-post/2016/12/15/What-is-the-source-of-hope-during-a-difficult-Christmas?fbclid=IwAR2pqchxQ_G5xBD1KxKMBWHg3g732BBPJD5VJeiWlPwDR1yoKulLaQhmL-Y
[3] http://orthokairos.weebly.com/uploads/5/7/3/1/57311059/emmanuel.pdf