بيتٌ منقسمٌ على بيتٍ يسقط
فبراير 2, 2023
تفكيك النهج الإعلاني؟
مارس 2, 2023

دعونا نواصل الحديث: الكتاب المقدّس العربي بترجمة البستاني – فان ديك والحوار حول عقيدة العصمة

بقلم وسام نصرالله

قد تكون هذه المدوّنة مفرطة الطموح. فأنا أسعى، في مساحة قصيرة جدًا، إلى معالجة موضوعين رئيسيين يستحقّ كلّ منهما عدّة صفحات للخوض في تفاصيلهما. الأوّل يدور حول النقد النّصّي وترجمة البستاني – فان ديك العربيّة للكتّاب المقدّس، بينما الثاني هو بمثابة دعوة لمواصلة الحوار حول عقيدة العصمة.

منذ أن نُشِر للمرّة الأولى قبل 150 عامًا ونيف في العام 1865، كان الكتاب المقدّس بترجمة البستاني فاندايك هو النسخة الأكثر شهرةً وسلطةً واستمراريةً في اللغة العربيّة لسنوات عدّة.

تحظى هذه الترجمة باحترام ورهبة بين المسيحيين العرب تشبه الذروة التي يحظى بها إنجيل الملك جيمس في العالم الناطق باللغة الإنجليزية.

ولا يسعنا سوى أن نشكر الله لمساهمة ملايين النسخ الموزّعة في بناء جسد المسيح، وإعلان الإنجيل، وتنمية عقول المؤمنين والباحثين العرب وأرواحهم.

إلى جانب جمال اللغة، تتميّز ترجمة البستاني – فاندايك بأسلوبها الحرفي الذي يسعى إلى أن يكون الأكثر أمانةً للمخطوطات الأصليّة. غير أنّ خلف كلّ ترجمة ثمة نصّ الكتاب المقدّس باللغات الأصليّة، اليونانيّة والعبريّة والآراميّة.

في الوقت الذي كانت تتمّ فيه ترجمة البستاني فان ديك، أصبح النّص المقبول (باللاتينية Textus Receptus)، الذي جمعه إيراسموس في عام 1516 بناءً على مخطوطاتٍ من القرن الثاني عشر، هو المعيار والمرجع المُستخدم في ترجمات الكتاب المقدّس بما في ذلك ترجمة الملك جيمس.

استمرّ ذلك على المنوال نفسه حتّى العام 1881، وبعد ذلك تمّ تبنّي النصّ المحقَّق من قبل معظم جمعيات الكتاب المقدّس في الغرب. يعتمد النّص المحقّق بصورة رئيسة على المخطوطات القديمة من القرن الرابع ويستند إلى الاعتقاد بأنّ المخطوطات أكثر موثوقية عندما تكون أقدم في التاريخ وبالتالي من المحتمل أن تكون أقرب إلى الأصل. لذلك يسعى النقد المحقّق إلى دراسة المخطوطات القديمة المختلفة، لاكتشاف الأخطاء التي تسللت إلى النص من خلال النقل وتصحيحها ومحاولة تحديد الكلمات الدقيقة كما كتبها الكاتب الأصلي.

غير أنّ ترجمة البستاني – فان ديك ظلّت على حالها، من دون تغيير، حتّى يومنا هذا. مع ذلك من المثير للاهتمام أن نلاحظ، أنّ إلي سميث، الذي بدأ مشروع الترجمة قبل أن يتولّى كورنيليوس فان ديك زمام الأمور، بدأ بنهج انتقائي باستخدام مخطوطات أخرى غير النّص المقبول.

فهذا هو الموضوع الحاسم، الأمانة للنّص الأصلي، الذي تمّ التطرّق إليه في لقاء 22 يناير/كانون الثاني الذي نظّمته دار منهل الحياة. تمّت معالجة كلّ هذه المسائل وفقًا للدراسة الأكاديميّة والعمل الدؤوب للراحل القس الدكتور غسّان خلف في كتابة “الإنجيل بين الإسكندريّة وبيزنطة” والذي صدر بعد وفاته.

أنا أعتبر هذا المؤتمر علامة فارقة لمجتمعنا الإنجيلي الصغير في لبنان. في الواقع، كان الحديث عن الترجمة، وفي بعض الحالات الترجمات الخاطئة، للكتاب المقدس بترجمة البستاني – فان دايك من المحرّمات منذ فترة طويلة.

وبالفعل، فإنّ المجتمع الإنجيلي الذي أعرفه، باستثناء عدد قليل من الرياديين أمثال غسّان خلف، قد ابتعد عن الانخراط نقديًا في ترجمة البستاني – فان ديك، كما لو أنّ التعبير عن أيّ شكّ في نقله للعبريّة أو اليونانيّة سيطلق العنان لسلسلة تداعيات لا متناهية من شأنها أن تفتح الباب على مصرعيه للشكّ والذاتيّة في هذه الترجمة.

أنا، كمعظم الإنجيليين اللبنانيين، أؤمن إيمانًا راسخًا بأنّ الكتاب المقدّس هو كلمة الله الموحى بها، والصادقة، والجديرة بالثّقة، والمعصومة من الخطأ، والتي تتمتّع بسلطان والتي تشكّل المعيار النهائي في جميع أمور الحياة، والخلاص، والإيمان والأخلاق ونَافعة “لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ” (2 تيموثاوس 3: 16-17).

غير أنّ في سعينا لدعم الإيمان والعقيدة السليمة والدفاع عنها من هجمات اللاهوت الليبرالي والنسبية الأخلاقية والنقد من الأديان الأخرى وطمأنة أنفسنا من الشكّ، حرصنا على أن نقدّم لأنفسنا وللآخرين الكتاب المقدّس دون “مشاكل” أو تحديّات أو أودجه غموض. وقد أدّى ذلك إلى حلّ المشكلات عن طريق معالجتها قبل أوانها وأحيانًا عن طريق حبس أنفسنا داخل فقّاعة إنجيليّة تهدف إلى حمايتنا من عالم خارجي مشبوه وعدائي. فكان الموقف الآمن لنا هو التمسّك بما نعرفه وما هو مألوف لدينا.

مع وضع هذا الأمر في عين الاعتبار، تمّ طرح مسألة العصمة، وهي العقيدة القائلة بأنّ “الكتاب المقدّس بدون خطأ أو عيب في كلّ تعاليمه“، وذلك عدّة مرّات في لقاء دار منهل الحياة في 22 يناير/ كانون الثاني، حيث أنّ النقد النّصّي، بالنسبة للكثيرين، كان يشكّل تهديدًا مباشرًا للمساحة الآمنة التي أنشأناها والتي كان أساسها فهم معيّن للعصمة. والتحليل المنطقي كان أنّه إذا كان بإمكان المرء الشكّ في مصداقية كلمات أو آيات معيّنة، ألا يعطي هذا ضوءًا أخضر للشكّ في كلّ شيء آخر؟ بمعنى آخر، هل كلمة الله حقًا بلا خطأ أو عيب؟

كما أوضح غسّان خلف في كتابه، لا يغيّر أيّ اختلاف بين مخطوطات العهد الجديد القديمة ولا تحدّيات الترجمة أيّ حقيقة أو عقيدة أو ممارسة مسيحيّة أساسيّة في الكتاب المقدّس. يجب أن تريحنا هذه الحقيقة في مصداقيّة الكتاب المقدّس وتشجّعنا على الترحيب بعمل علماء النصوص وهم يسعون إلى جعلنا أقرب إلى ما كتبه كتّاب الكتاب المقدّس.

ومع ذلك، نظرًا لأنّ المحادثة أثارت الكثير من المشاعر الناريّة وردود الفعل المشحنة من كلا الجانبين، فقد ظهرت الحاجة إلى مزيد من المحادثات حول عقيدة الكتاب المقدّس، بشغف وقناعة ولكن أيضًا بتواضع روحي وانخراط منعم بعيدًا عن القبليّة اللاهوتيّة، والتبسيط المفرط، والمبالغة.

في البداية، اعتقدت أنّ هذا الموضوع أكثر حساسيّة في العالم العربي، نظرًا لتأثير الإسلام حيث يعتبر جيراننا المسلمون القرآن “منزلًا”، أي أنّه أنزل من عند الله. ومع ذلك، فإنّ الجدل حول عصمة الكتاب المقدّس كان أيضًا قضيّة مفصليّة في الإنجيلية الغربيّة، وتحديدًا الأمريكيّة، وذلك في المائة سنة الماضية. وهذا صحيح لدرجة أنّ موقف الشخص من العصمة يبدو أنّه يحدّد ما إذا كان “أمينًا عقائديًا” أم لا.

هذا هو السبب الذي يجعل لغير الخبراء ولغير اللاهوتيين يبدو أنّ أي نقاش حول العصمة سينتهي به المطاف إلى أن يكون محادثة حول التفسير. في الواقع، العصمة لا تكشف لنا ما يؤكّده الكتاب المقدّس حقًا ولكن أنّ كلّ ما يؤكّده الكتاب المقدّس هو حقّ وبدون أخطاء.

وبالتالي، بغية إجراء أيّ محادثة مفيدة، يجب مناقشة قضيتين، من بين أمور أخرى: (1) في جهودنا لفهم تعليم نصّ كتابي وتقديمه: كيف يمكننا عدم تجاهل ما نجده في النّصّ أو ننسبه لمعتقداتنا بصورة تعسفيّة، مع الأخذ في الاعتبار النوع الأدبي المحدّد للنّص، وفهم الجمهور الأصلي للتاريخ والطريقة التي يعمل بها العالم المادي؟ و(2) كيف نصنّف خلافاتنا التفسيريّة دون تحويل البحث عن سلطة النّص إلى بحث عن سلطة تفسيريّة؟

فيما يتعلق بالقضيّة الأولى، حذّر ج. أ. باكر من “الفخ النفسي” الذي يفترض أنّ “الاعتراف بالعصمة يتضمّن التزامًا بالتعامل مع جميع المقاطع السرديّة والتنبؤية في الكتاب المقدّس كما لو كانت مكتوبة وفقًا للأعراف التي تنطبق على النثر الإنجليزي العادي المستخدمة اليوم، بدلاً من الأعراف السائدة في عصر النصوص الأصليّة ونوعها الأدبي” (باكر، 2008). وهو يستخدم سفر التكوين 1 كمثال حيث يمكن قراءته كما لو كان “يجيب على الأسئلة نفسها التي تهدف الكتب العلميّة إلى الإجابة عليها”.

فيما يتعلّق بالقضيّة الثانية، في حين أنّ العقيدة الصلبة للكتاب المقدّس ضروريّة، يبدو أنّ البعض يستخدم العصمة للادعاء بـ “عصمة تفسيرهم للكتاب المقدّس“، على حد تعبير اللاهوتي مايكل بيرد. في الواقع، فإنّ القول بأنّ هناك تفسيرًا قويمًا واحدًا محتملاً لمقاطع معيّنة (مثل قصّة الخلق أو الرؤيا) والتي بدونها سينهار صرح الإيمان المسيحي، فهذا يُظهِر رؤية مختزلة للكتاب المقدّس. على حد تعبير آل موهر، عندما نتناول مسألة التفسيرات المختلفة، نحتاج إلى إجراء فرز لاهوتي مناسب: “تسيء الأصوليّة الحكم بالاعتقاد أنّ جميع الخلافات تتعلّق بعقائد من الدرجة الأولى. وبالتالي، يتمّ رفع قضايا الدرجة الثالثة إلى الدرجة الأولى، وينقسم المسيحيون بصورة خاطئة ومضرّة”. تشمل قضايا المستوى الأوّل التي لا يمكن إنكارها على سبيل المثال لا الحصر التبرير بالإيمان بالمسيح وحده، لاهوت يسوع وناسوته الكامل، والثالوث وسلطان الكتاب المقدس.

في الختام، كما كتب إيلي حدّاد في مدوّنة نُشرت حديثًا، “نحتاج إلى ذلك أقترح أن نبدي الرحمة لبعضنا البعض، وألا نتوقّف أبدًا عن احترام بعضنا البعض والاستماع إلى بعضنا البعض” وإعادة تعلّم فن التحدّث والاختلاف باحترام مع بعضنا البعض بشأن قضايا التفسير حتّى عندما تكون لدينا قناعات راسخة.

في غضون ذلك، نأمل أن يمهّد إرث القس الدكتور غسّان خلف الدائم من خلال كتابه الأخير الطريق لمحادثة أوسع حول تاريخ الكتاب المقدّس، والتفسير، والحاجة إلى “نسخة منقّحة من ترجمة البستاني – فان ديك العربيّة للكتاب المقدّس” في أيدي المؤمنين العرب الأمناء الساعين من خلال دراسة كلمة الله إلى معرفة الكلمة المتجسّد عن كثب.

وسام هو مدير العمليات للجمعيّة اللبنانيّة للإنماء التربوي والإجتماعي. تتمثّل رغبته في أن يرى شعب الله يسلكون كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ، فِي كُلِّ رِضىً: مُثْمِرِينَ فِي كُلِّ عَمَل صَالِحٍ، وَنَامِينَ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ (كولوسي 1: 9-10).

اترك رد