كيس فان دير كنيف
عمل الله في العالم له طابع مميّز. غالبًا ما يتحرّك عكس كلّ التوقعات. يختار الله الأخ الأصغر سنًّا. يدخل في عهد مع سبط هامشي وغالبًا ما كان عاصٍ. يأتي إلى الأرض كابن نجّار في منطقة محرومة. وذروة كلّ ذلك تتجلّى بموته موت الخزي على الصّليب. كلّ هذا هو جهالة مطلقة في عيون العالم، كما يوضح بولس (1 كورنثوس 1: 18-25). توصّل اللاهوتيون إلى مفاهيم مختلفة لوصف النمط المميّز لعمل الله. مصطلحات مثل صورة الصّليب أو صورة المسيح شائعة جدًا اليوم. الفكرة المفتاحيّة هي نفسها: إنّ عمل الله في العالم يتّخذ صورة “القوّة في الضّعف”.
كمسيحيين إنجيليين، نحن على استعداد لتبنّي هذا النّمط على مستويات متعدّدة. للصليب أهميّة محوريّة في إيماننا وروحانيتنا. نحن لا نؤمن بإنجيل الازدهار ونشعر بعدم الارتياح عندما ترتبط المسيحيّة ارتباطًا وثيقًا بالسلطات الأرضيّة. لا تزال خدماتنا الكنسيّة تتّمحور حول الوعظ الأحمق (من وجهة نظر بشرّية). يمكن إعطاء أمثلة أخرى متعدّدة. غير أنّ هناك مجال نقوم فيه باستثناء كبير: عقيدتنا حول الكتاب المقدّس.
ماذا أعني بهذا القول؟ ما أعنيه على نحو أساسي هو التالي: ثمّة ميل قوّي في اللاهوت الإنجيلي إلى التمسك بعقيدة “عالية الشأن” حول الكتاب المقدّس. نريد أن نكون قادرين على أن نعلن مجاهرةً أنّ الكتاب المقدّس هو كلمة الله. نتيجة لذلك، تكثر الدفاعات الإنجيليّة عن الكتاب المقدّس. نحن نفعل كلّ ما في وسعنا لدعم الكتاب المقدّس والدّفاع عنه ضدّ مهاجميه “الليبراليّين/ المتحرّرين”. وفي بعض الدوائر، تعمل الكلمات المفتاحيّة المحدّدة (مثل العصمة) كاختبار حاسم لتحديد الإنجيليّين الحقيقيّين.
وفقًا لملاحظتي، هذه الرّغبة في “كتاب مقدّس قوّي” قد تكون أكبر لدى بعض الإنجيليّين العرب. وهذا ليس عبثًا. بالمقارنة مع ادّعاءات المسلمين حول أصول القرآن، يبدو أنّ الكتاب المقدّس تشوبه “شوائب” عديدة: كُتّاب بَشَر متعدّدون، وبعضهم لا نعرفهم حتّى؛ تاريخ طويل من الكتابة والتّنقيح، تاريخ متنازع عليه من قانونية الأسفار، متغيرات نصيّة متعددة؛ إلخ. في سياق مثل العالم العربي، من المنطقي الدفاع عن الطبيعة القوّية للكتاب المقدّس، أليس كذلك؟
في الآونة الأخيرة، تمّت إعادة النّظر في النّقاش حول عصمة الكتاب المقدّس في دوائر كليّة اللّاهوت المعمدانيّة العربيّة. خلال المحادثات التي تلت ذلك، تساءلت: هل سيكون من الممكن، بدلاً من تنقيح وإعادة تعريف المصطلحات المفتاحيّة المعنيّة، نقل المناقشة بأكملها إلى مفتاح مختلف؟ هل ثمّة طريقة للحديث عن سلطة الكتاب المقدّس تساعدنا على التركيز على الكتاب المقدّس في السياق الشامل لإرساليّة الله، بدلاً من شيأنة الكتاب المقدّس أي جعله شيئًا جامدًا ووصف خصائصه الصلبة؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد يكون هذا مفيدًا للغاية، لا سيّما في ضوء حقيقة أنّ المناقشات حول العصمة ليس لها تاريخ طويل في الكنائس في الشرق الأوسط، في حين أنّ التفكير في إرساليّة الله كان محوريًا في النهج اللاهوتي لكليّة اللاهوت المعمدنيّة العربيّة.
إحدى الأفكار التي تبادرت إلى ذهني هي فكرة “القوّة في الضّعف”. ماذا لو بدأنا من النّمط المعتاد لانخراط الله في العالم؟ غالبًا ما يستخدم الله أدوات متواضعة غير متوقعة لتحقيق مقاصده الإلهيّة. فمن وجهة النظر هذه، ليس لدينا سببًا لنخجل من كتابنا المقدّس “الضعيف”. نعم، إنّه بشرّي بصورة عميقة. نعم، لقد استغرق الأمرعدّة عقود قبل أن يكتمل. نعم، عندما ندرس تاريخ قانونية الأسفار نجد نقاطًا كثيرة حيث، من وجهة نظر بشريّة، كان من الممكن أن تسير الأمور في اتجاه مختلف. ومع ذلك، عندما نفتح هذا الكتاب، فإنّنا نختبره: ندخل إلى حق.ل قوة ديناميكيّة حيث تعمل روح الله. حيث يأخذ الله هذه الكلمات البشريّة ويتكلّم لحياتنا بقوّة وسلطان.
فكيف يمكن أن تساعدنا أكثر هذه المقاربة المختلفة للكتاب المقدّس؟ كيف تساعدنا في تجاوز المناقشات التي غالبًا ما يتم استيرادها، ولكنّها ليست مهمّة دائمًا؟ كلّما طالت فترة تفكيري في الأمر، زادت المزايا الحسنة التي أراها. في هذه المدونة، سأذكر ثلاث أعتبرها حاسمة.
أولاً، يساعدنا تطبيق ديناميكية “القوّة في الضّعف” على الكتاب المقدّس على التركيز على الكتاب المقدّس في السّياق الأكبر لعمل الله في العالم. يؤكّد هذا النّهج بدايةً على أنّنا كمسيحيين لسنا في المقام الأوّل أهل كتاب، ولكنّ هذا الكتاب المقدّس هو أداة أساسيّة في الطريقة التي يتعامل بها الله الثالوث مع خليقته. نحن لا نعلّق رجاءنا على هذا الكتاب، بل بالله الذي اختار أن يعلن نفسه فيه ومن خلاله. ومن ثمّ، فإنّ طريقة التّحدّث عن الكتاب المقدّس هذه تركّز انتباهنا على شخص الله منذ البداية. هذا هو الله الذي نؤمن به: الله الذي يفاجئنا دائمًا بالطريقة التي يمارس بها عمله. الله الذي يختار في الغالب الودعاء ومتواضعي القلوب كأدواته المفضلّة. الله الذي أظهر نفسه في أعمق صورة على صليبٍ مخزٍ.
في المقام الثّاني، يساعدنا التّحدث عن الكتاب المقدّس من حيث “القوّة في الضّعف” على التّغلب على دفاعاتنا. العديد من التفسيرات الإنجيليّة لعقيدة الكتاب المقدّس دفاعيّة بطبيعتها، وفي رأيّي، غالبًا ما تكون مدفوعة بالخوف. الخوف من أنّه إذا تزعز هذا الحصن، فإنّ إيماننا كلّه مبني على أسس متراخية. إذا قبلنا الطبيعة “الضعيفة” للكتاب المقدّس، فإنّ الحاجة إلى الدفاع عنها تختفي على الفور. لقد أعطانا الله كتابًا لم يفكر فيه أي أحد آخر: تمّت كتابته عبر مراحل زمنيّة، وتنقيحه على مستويات متعدّدة، ومليء بالقصص التي كنّا نفضّل إسقاطها. بطريقة ما نجهلها وبحكمته التي لا يمكننا أن نسبر غورها، كانت تلك الطّريقة “الضعيفة” هي الطريقة التي يراها الأفضل. لذلك، يمكننا أن نقبل الكتاب المقدّس باعتباره كلمة الله بفرح كعطيّة ثمينة منه. وبكلّ بشريّته، فإن توقيع الله عليه كلّه.
لهذا السبب أيضًا، في المقام الثّالث، يساعدنا نموذج “القوّة في الضّعف” على قراءة الكتاب المقدّس بتوقّع. لا أعرف الكثير من القرّاء الذين يرتفع مستوى توقّعاتهم من فكرة قراءة كتاب معصوم. لكنّ عندما أقارب الكتاب المقدّس بفكرة أنّ الله يستخدمه ليكشف عن قوّته، أقرأه بالتأكيد بعيون مختلفة. قلبي وعقلي في وضع مختلف: كيف سيأخذ الله تلك القصص والقصائد والرّسائل القديمة ليكشف عن نفسه لنا، لي اليوم؟ كيف يفاجئنا بإظهار قوّته بضعف هذه الكلمات؟ هذا ما يحدث مرارًا وتكرارًا عندما نقرأ الكتاب المقدّس: نختبر أنّه يحتوي على قوّة مختلفة تمامًا عن قوّة الكلمات الكاملة أو الخالية من العيوب. إنّها قوّة روح الله. قوة تفاجئ، تعزّي، وتدعو إلى الإيمان. ولكن أيضًا قوة تشوّش، تواجه، وتصحّح. إنّه لأمرعجيب ما يمكن أن تحقّقه “قوّة الله في الضّعف”!
هل يمكن أن يكون هذا النّهج طريقة للتغلّب على المناهج غيرالمفيدة للكتاب المقدّس وسلطته؟ طريقة أبعد من المناقشات الراكدة التي قد تفتح محادثات أعمق حول كتبنا المقدّسة؟ الأمر متروك للقرّاء ليقرّروا. أنا شخصيّا أعتقد أنّها قد تكون طريقة جديدة للتفكير في الكتاب المقدّس يمكن أن تساعدنا على الخروج من خنادقنا ونبتهج مرّة أخرى في هذه العطيّة الفائقة الغنى التي تلقيناها في الكتاب المقدّس. خذ واقرأ، وتوقّع أن تتفاجأ بالقوّة في الضعف.
كيس هو أستاذ مساعد في علم اللّاهوت النظامي والتاريخي في كليّة اللّاهوت المعمدنيّة العربيّة. وهو قائد برنامج الماجستير اللاهوت والماجستير في العلوم الدينيّة لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.