بقلم عبد زين الدين
كان عمري حوالي 8 سنوات في أوائل التّسعينيات عندما حصلت على أوّل لعبة إلكترونيّة. كانت الأتاري بنسختها الجديدة. لقد اندهشت من كيفية تمكّني من استخدام عصا التّحكم لتحريك الشّخصيّات على التّلفاز. في غضون سنوات قليلة، حصلت على لعبة أكثر تحديثًا: نينتندو. ما زلت أتذكّر بحماس اصطياد البّط الطائرمن خلال إطلاق النار على شاشة التّلفاز باستخدام مسدّس ضوئي إلكتروني. والحدث المهم التاّلي كان استخدام الحاسوب لأوّل مرّة في مختبر المدرسة. لقد غُيّر ذلك الأمر قواعد اللّعبة بالنسبة لي وللعديد من أبناء جيلي. تطوّر التّقدم التكنولوجي في الألعاب الإكترونية من خلال الكمبيوتر ككرة الثّلج المتدحرجة التي تزداد حجمًا منذ ذلك الحين وما زالت مستمرّة في النّمو.
ينظر كثيرون من النّاس في الوقت الحاضر إلى التكنولوجيا بعين الريبة؛ في حين يجدها آخرون مفيدة. على سبيل المثال، قد تقرأ هذه المدوّنة على شاشة الكمبيوتر المحمول أو الجهاز اللّوحي المحمول أو الهاتف المحمول. كلّ ما تحتاجه للوصول إلى المعلومات هو ببساطة أحد الأجهزة التي أوردتها مسبقًا وشبكة إنترنت موثوقة. غير أنّه ريثما تتلقّى المعلومات، فقد يقوم طرف آخر بجمع معلوماتك من خلال الجهاز نفسه في الوقت الحالي. التكنولوجيا مفيدة وضارّة في آنٍ معًا. بصفتنا أتباعًا للمسيح، وفي ضوء كيفية كشف الله الخالق عن نفسه من خلال نظام مخلوقاته وكيفية منح ملكة الإبداع للبشر المخلوقين على شبهه، فإنّنا ننظر إلى التكنولوجيا على أنّها هبة قيّمة من الله تهدف إلى إزدهار الإنسان، لكنّها يمكن أن تكون ضارةً أيضًا عند استخدامها في عالم خاطئٍ وساقط. وعليه، كيف يمكننا تطوير التكنولوجيا على نحوٍ يظهر الطّاعة لله؟
بينما أكتب هذه الكلمات، يتحدّث الأشخاص البّارعون في مجال التّكنولوجيا عن الذّكاء الإصطناعي على أنّه النقلة النوعيّة الكبيرة التّالية. يتطوّر الذّكاء الإصطناعي على نحوٍ أسرع بكثير ممّا توقعنا. من كان يظنّ أنّ السّيارات يمكن أن تقود نفسها من دون سائق، أو أنّ مستودعات أمازون في جميع أنحاء الولايات المتّحدة ستستخدم الذّكاء الإصطناعي لتحسين سلسلة التّوريد للتنبؤ بالطلب على المنتجات، وتحسين مستويات المخزون، وتوجيه الطلبات إلى مراكز التّنفيذ الأكثر كفاءة. يمكن أن يساعد الذكاء الإصطناعي في العمليات الجّراحية الطبيّة وحتّى في تقديم المّشورة!
يعدّ ChatGPT مثالاً واحدًا حول الذّكاء الإصطناعي الذي يمكنه الإجابة على أسئلتك، تأليف القصائد، وحتّى كتابة عظة في موضوع من اختيارك. الذكاء الإصطناعي له تأثيرات مباشرة على مجالات مختلفة، والتّعليم العالي ليس سوى أحد هذه المجالات. يُعتبر الذكاء الإصطناعي مثيرًا للقلق إذا كنت تفكّر من حيث عدد الوظائف التّي سيتّم أخذها منّا ومنحها للروبوتات خلال السنوات القليلة المقبلة. يمكن أن يستخدم الذكاء الإصطناعي اليوم برنامجًا معيّنًا (تمّت برمجته من قبل البشر ولكنّه قادر على تطوير نفسه بعد ذلك) لفرز طلبات عمل وتصفيّة متقدّمين بطلبات توظيف غير مرغوب فيهم. هذا مفيد لشركات الأعمال الضّخمة، ولكنّه قد يكون أيضًا تمييزيًا. المصطلح المُستخدم “تمييز مشفّر”. يمكن حتّى تسليح الذكاء الإصطناعي: تدريبه على تحديد فئة من الأهداف، ثمّ اختيار ومهاجمة شخص أو شيء معيّن من تلك الفئة مع القليل من المدخلات البشريّة أو بدونها. ببساطة، الذّكاء الإصطناعي جيّد وسيّء في الوقت نفسه. إليكم “معضلة الذكاء الإصطناعي“.
اسمحوا لي أن أقترح بعض الأفكار كمسيحي يعيش في عصر الذّكاء الاصطناعي. من وجهة نظر لاهوتيّة، وإذا كنّا نعتقد أنّ الذّكاء الإصطناعي سوف يتّطور في المستقبل فقط كتقليد للبّشر دون أن يصبح مستقلًّا تمامًا عن سيطرة الإنسان، فإنّ النّظر إلى التّكنولوجيا على أنّها خيّرة بالمطلق أو شريرة بالمطلق أمر غير مفيد. حدّ منظورنا العام للعالم من حولنا بمنظور مادي، قد يتحوّل إلى إيمان بالتّكنولوجيا: تصبح التّكنولوجيا مخلّصنا. هذا شكل جديد من أشكال الوثنية. غير أنّه ثمّة جانب ساطع لكون “الذّكاء الإصطناعي” جزءًا من هبة الله للخليقة إذا تعاملنا مع إمكانياته بنضج وعناية. من النّاحية اللّاهوتيّة، لا يزال الله منخرطًا في نظام خليقته، ولا يزال يخلق، ولا يزال يرشد كلّ الأشياء ويمسكها معًا بيسوع، وفي الوقت نفسه وفي ضوء الإصحاحين الأوّل والثّاني من سفر التكوين، فإنّ وصيّة الله للخليقة تدفع البّشر كوكلاء الله على الأرض للانخراط في وصيّة الله وإرساليته بأن نكون وكلاء خلّاقين يعتنون بخليقة الله. ويشمل ذلك الإبداع في مجالات مختلفة، من ضمنها الذكاء الإصطناعي. غير أنّنا يجب أن نكون حذرين، إذ تتداخل الخطيئة مع خليقة الله الصّالحة بغية تدميرها وإضافة بعد جديد للنظام القائم؛ أي شيء في الخليقة، من ضمنه الذكاء الإصطناعي، لديه القدرة على أن يكون موجّهًا في اتجاه الله أو بعيدًا عنه.
من النّاحية الوجوديّة، قد تكون نقطة البّداية هي المقارنة بين البشر والآلات. بدأ بعض المسيحيين المتعلّمين مثل كريستوفر بينيك في التفكير في مسألة ما إذا كانت روبوتات الذكاء الاصطناعي في المستقبل ستصبح مساوية للبشر. هل يمكن أن تصبح الروبوتات أكثر ذكاءً من البشر وتتطوّر من تلقاء نفسها؟ هل يمكن أن يصبح الذكاء الاصطناعي مستقلاً من حيث القدرات الفكريّة والإدراك، وبالتّالي يطوّر “الوعي”؟ إذا تمكّنا من تشفير أدمغتنا رقميًّا، فقد نطوّر نسخة رقميّة من ذواتنا: “وعي” يتطّور حتّى إلى ما هو أبعد منّا.
بعبارة أخرى، إذا أصبحت كائنات الذكاء الاصطناعي أكثر شبهاً بالبشر، فسيتّم إعادة النّظر في مجموعة كاملة من الأسئلة الأخلاقيّة: طبيعة الدين، الإرادة الحرة، الخطيئة، الخلاص، الأخلاق. أم أنّ الذّكاء الإصطناعي سيقلّد البّشر فقط؟ قد يوافق البعض بينما يختلف الآخرون. قد يكون هذا سؤالًا أساسيًا إذ يجب التفكير فيه بينما يتّطورالذّكاء الإصطناعي بصورة كبيرة. ومن الجدير بالذكر هنا أيضًا أنّ أشخاصًا مثل بيل جيتس ونعوم تشومسكي والرّاحل ستيفن هوكينغ كانوا متشكّكين بشأن الذّكاء الإصطناعي. لقد حذّر ستيفن هوكينغ عبر إذاعة ال بي بي سي من أنّ الذكاء الاصطناعي سيطلق نفسه ويعيد تصميم نفسه بمستوى متسارع جدًا قائلًا أنّ “تطوير الذّكاء الاصطناعي الكامل يمكن أن يعني نهاية الجنس البشري”. وبسبب القيود البيولوجية للبشر ومعدل التّطوّر البطيء، سيخسر البشر ويتجاوزهم الذكاء الاصطناعي. حتى الذكاء الاصطناعي نفسه توقّع أنّ تطوّر الذكاء الاصطناعي يمكن أن يؤدّي إلى سيناريو زوال البشر.
أين أقف شخصيًا من هذه معضلة الذكاء الاصطناعي حاليًا؟ لا أعتقد أنّ الذكاء الإصطناعي سوف يطوّر قدرة على التحليل الأخلاقي لا الآن ولا في العام مليون. لقد خلقنا الله ونحن أولاده. نحن صنعنا الذكاء الإصطناعي. الذكاء الإصطناعي هو خليقتنا وليس ابن الله. الآن، كمسيحي، أعتقد أنّ للذكاء الإصطناعي مزاياه وعيوبه عند النّظر إليه من منظورعملي.
هل يمكننا برمجة الذّكاء الإصطناعي بطريقة فدائيّة تعكس الحبّ لجيرانّنا وتهتّم بالخليقة؟ والمثير للدّهشة أنّه تمّ العثور على تطبيقات مفيدة لـلذكاء الإصطناعي في مجالات أبحاث الأدوية، مراقبة البيئة، الحفاظ على الحيوانات، مساعدة ذوي الهمم، وتحسين السّلامة المروريّة. يمكن للعلماء المسيحيين الإنضمام إلى منظمات مثل الذكاء الإصطناعي والإيمان لجذب جدول الأعمال مثل هذه المجموعات تجاه الصّالح العام. يمكن لـلذكاء الإصطناعي مساعدتك في تحسين خدمات العبادة عبر الإنترنت، إنشاء مواد مخصّصة لدراسة الكتاب المقدّس، دعم الرّعاية الرّاعويّة، تحسين التّواصل، إنشاء محتوى على وسائل التّواصل الاجتماعي، تنظيم الفعاليّات، توفير التّعليم، جمع التّبرعات، إعداد العظات، تأليف الأدب المسيحي.
من ناحية أخرى، وكما أشرنا آنفًا، يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينشر الظلم، وهو تهديد حقيقي حيث يتّم استخدام بيانات كثيرة في مجموعة متنوعة من المجالات بما في ذلك التأمين، الأمن، التسويق، القروض، السياسة. علاوة على ذلك، وعلى النقيض من مزاياه الخدماتيّة، إذا كان المسيحيون، على سبيل المثال، يعتمدون باستمرار على الذّكاء الاصطناعي في الخدمة لكتابة عظاتهم، فقد يصبح الرعاة المسيحيون كسالى. قد تمسي خدمتهم أقل شخصيّة وأكثر ميكانيكية، لأنّ الخدمة المسيحية هي في جوهرها حضور دينامي متجسّد لعلاقة محبّة مع الله والآخرين.
أخيرًا، أتوافق مع فريد بروكس، وهو عالم كمبيوتر مسيحي يحظى باحترام كبير، بأنّ الذّكاء الاصطناعي هو أحد الاحتمالات الرّائعة في الخليقة الذي قد يساعد المسيحيون في تطويرها بطرق تمجّد الله، على الرّغم من احتماليّة حدوث انحرافات خاطئة. سيحتاج المسيحيون إلى زيادة مساهمتهم في المحادثة الأكبر التي تدور حول هذه التقنيّات الجديدة الفعّالة من خلال مشاركة وجهات نظرهم حول ما يعنيه أن تكون إنسانًا والتّحدّث بصوت كتابي وفي الوقت المناسب.
بالمناسبة، لم يتّم نص هذه المقالة من خلال الذكاء الإصطناعي!
عبد هو أستاذ مساعد في الخدمة الرعوية في كلية اللّاهوت المعمدانيّة العربيّة. وهو عضو في كنيسة الناصري ويستمتع بمشاهدة الأفلام والاستماع إلى الموسيقى والتّنزه.