عماد بطرس
لم تكن فكرة سيّئة أن أفوِّت حضور الكنيسة صباح الأحد الماضي، والاسترخاء في المنزل ومشاهدة الخدمة الصباحيّة على سات 7، وهي قناة فضائيّة شرق أوسطيّة. وعلى وجه الخصوص، عندما اكتشفت أنّ هناك تغطيّة خاصّة للزيارة التّاريخيّة لرئيس الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة، البابا تواضروس الثّاني، إلى رئيس الكنيسة الكاثوليكيّة، البابا فرنسيس، في الفاتيكان. وبينما كنت أستمع إلى المحادثة المحفّزة على سات 7 بين ضيفين خاصّين، القسّ رفعت فكري (رئيس مجلس الحوار والعلاقات المسكونيّة، في سينودس النيل) والأب ميلاد شحاتة (مدير المركز الثّقافي الفرنسيسكاني)، سؤال رئيس واحد تبادر إلى ذهني: ما الذي يمكن أن نتعلّمه نحن الإنجيلييّن من حدث تاريخي كهذا؟ إليكم فيما يلي تفاعل وتعقيب شخصّي على هذه المحادثة الشيّقة التي دارت بين الاثنين.
تأتي هذه الزّيارة بمناسبة الذكرى الخمسين للاتفاقيّة التّاريخيّة الكريستولوجيّة (حول لاهوت المسيح) المبرمة في 10 أيار/ مايو 1973 بين الكنيستين القبطيّة الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة. أنهى هذا الاتفاق نزاعًا لاهوتيًا عمره 1500 عام، أي منذ مجمع خلقيدونية عام 451م. كما أنها تأتي بمناسبة زيارة البابا تواضروس للفاتيكان قبل 10 سنوات، حيث ابتدأت مسيرة صداقة أعمق بين الكنيستين، وفي 10 أيار/ مايو من كلّ عام يتم الاحتفال بـ”يوم الصّداقة القبطيّة الكاثوليكيّة”.
النقطة الأولى التي لفتت انتباهي في هذه الزّيارة التّاريخيّة والتي سأركّز عليها هي “مسيرة الصّداقة”. اعتقدت أنّ عمليّة المصالحة هذه ستبدأ بحوار لاهوتي “لحلّ” النزاع حول الخلافات اللاهوتيّة القديمة. وبدلاً من ذلك، قدّم البابا تواضروس خارطة طريق من أربع نقاط للمصالحة: الصّداقة والمحبّة؛ الدّراسة والتّعلّم عن الآخر؛ الحوار؛ والصّلاة. كما يمكننا أن نرى، فإنّ الحوار لا يقوم على مناقشة الخلافات اللاهوتيّة، بل على صداقة حقيقيّة وفهم للآخر، تتّوجها الصلاة.
يتم التّعبير عن هذه الصّداقة الخاصّة من خلال مكالمة هاتفيّة سنويّة بين الصديقين في 10 أيار / مايو. يعلّق البابا فرانسيس في هذه المناسبة بروح الدّعابة قائلاً: “نتحدّث مع بعضنا البعض منذ 10 سنوات، وما زلنا أصدقاء”.
كما يدعو البابا فرانسيس إلى ذاكرة جماعيّة شافية لكلا المجتمعين الإيمانيّين، كجزء ضروري من مسيرة المصالحة. وهذا لا يتطلّب قراءة جديدة لماضينا فحسب، بل يتطلّب أيضًا زرع بذور جديدة من المحبّة والتفاهم التي تشكّل الذّاكرة الجماعيّة للجيل الجديد.
علاوة على ذلك، يدعونا البابا فرنسيس إلى مسيرة حجّ إلى (سفر أعمال الرّسل). هناك، نتعلّم أولاً كيف تعاملت الكنيسة الأولى مع النّزاع، حيث يقول: “إنّه يذّكرنا أنّ الطّريقة الكنسيّة لحل النّزاعات تقوم على الحوار من خلال الإصغاء الدقيق والصبور والتمييز في ضوء الرّوح القدس”. ثانيًا، إنّ مسيرة الصّداقة هذه تمّ تأسيسها وقيادتها من خلال”مفاجآت الرّوح القدس”، لأنّنا لا نعرف ما قد نواجهه في الطريق، ولا نعرف كيف يمكن أن يتحقق هذا الحلم. عندما نسمع البابا فرانسيس، يمكننا أن نشعر بقناعة عميقة بالاعتماد على الرّوح القدس بينما يسير كلاهما في هذه الرّحلة إلى المجهول. وهكذا، فإن مسيرة الصّداقة هذه متجذّرة في الكتاب المقدّس.
تشير مسيرة الصّداقة هذه أيضًا إلى “حقبة جديدة من الكرازة”، كما يقول الأب ميلاد. استوقفني للحظة هذا التصريح. غير أنّني عندما فكّرت مليًّا في الأمر، اكتشفت أنّه يترجم بصورة عملية تصريح يسوع، “وصيّة جديدة أعطيكم: أحبوا بعضكم بعضاً. كما أحببتكم، يجب أن تحبّوا بعضكم بعضًا. بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي إن أحببتم بعضكم بعضاً “(يوحنا 13: 34-35). بينما يشهد العالم هذه العلامة الجديدة للصداقة الحقيقيّة بين شعب الله، فإنهم سيمجّدون أبانا الذي في السموات (متّى 16:5).
تمّ التّعبير عن هذه الصّداقة الأصيلة أيضًا من خلال مبادرتين عمليّتين: تمّت دعوة البابا تواضروس من قبل البابا فرنسيس للتّحدث في اجتماع الأربعاء الأسبوعي في 10 أيار/ مايو 2023، وهي المر الأولى التّي يخاطب فيها رئيس كنيسة أخرى الحشد المجتمع في ساحة القديس بطرس. ثانيًا، تمّ فتح كاتدرائيّة القدّيس يوحنّا اللاتراني، الكاتدرائيّة الرّسميّة للبابا، ليترأس البابا تواضروس قدّاس الأحد.
نحن بحاجة لهذه “الرّوح الجامعة”، كما يقول القس فكري. ويتابع قائلاً: “كان قلب البابا فرانسيس مفتوحًا قبل افتتاح المبنى”. ثمّ يسأل: هل سيأتي اليوم الذي نفتح فيه كنائسنا للطوائف الأخرى لعقد اجتماعات عبادتهم بدلاً من افتتاح كنيسة جديدة في الشّارع نفسه؟
في الواقع، فإنّ المسيرة المقبلة للكنيستين ليست بهذه السّهولة. من الواضح أنّهما سيواجهان العديد من العقبات. لقد تحدّى البعض هذه اللّحظة التّاريخيّة وشكّكوا فيها. على سبيل المثال، عندما تحدُث مثل هذه الفعاليّات، نسمع بعض الأصوات تشكّك في صلاحيّتها، تفاضل قيمة الوحدة مقابل الإخلاص للعقيدة. عندما نواجه مقاومة ونمرّ بلحظة من الإحباط، يشجّعنا البابا فرانسيس على أن نتذكّر “أن نفرح في المسار الذي سلكناه من قبل وأن نستفيد من حماسة الرّواد الذين سبقونا”.
كما نرى، هناك الكثير ممّا يمكننا تعلّمه من هذه المصالحة التّاريخيّة، وخاصّة أنّ الأمر يتطلّب قيادة نبويّة لكسر قرونٍ من الانقسام وتمهيد الطّريق أمام جيل جديد.
السؤال إذًا هو: كيف يمكننا نحن الإنجيليون المشاركة في هذه المسيرة؟ أحد المجالات المفتاحيّة هو سدّ الفجوة بين أفعال المسؤولين وتصريحاتهم، والقناعات والممارسات اليومية للمجتمع المسيحي. بمعنى آخر، كيف يمكننا أن نترجم هذه اللّحظة التاريخية في حياتنا اليوميّة؟
بصفتي شخصًا مشاركًا في التّعليم اللاهوتي المسيحي، أعتقد أن كليّاتنا اللاهوتيّة، على سبيل المثال، لها دور رئيس في تشكيل ذاكرة الجيل القادم. يمكننا القيام بذلك، أولاً، من خلال توفير مساحة لمحادثات مماثلة بين قادة اليوم وقادة المستقبل من مختلف الطوائف، وثانيًا، توفير مساحة كافية في مناهجنا لطلابنا للتّعرف على الطوائف الأخرى من قادة هذه الطوائف أنفسهم. أين يجب أن تتّم مثل هذه المحادثات سوى في مؤسساتنا الأكاديميّة اللاهوتيّة، الأماكن التي نعدّ فيها ونجهّز الجيل القادم من قادة الكنيسة في الشّرق الأوسط؟
بينما ننتظر مفاجآت عمل الرّوح القدس، فلتكن صلواتنا أن يتبع هذا النّموذج من القيادة النبويّة ليس فقط قادة طوائفنا ولكن أيضًا قادة وسلطات بلداننا في الشّرق الأوسط. في الواقع، تتوّق منطقتنا لمثل هذه القيادة النبويّة التي يمكن أن تقود ذاكرتنا الجماعيّة المنهكة نحو التّعافي والشّفاء.
ودعونا نصلي أيضًا مع البابا تواضروس من أجل مسيرة الصّداقة هذه بين الكنيستين “ألا يعرف نموّها حدًّا”. آمل أن ينضم مجتمعنا الإنجيلي قريبًا إلى مسيرة الصّداقة هذه أيضًا.
عماد بطرس أستاذ مساعد في دراسات العهد القديم في كليّة اللّاهوت المعمدانيّة العربيّة.
1 Comment
أكثر من رائع، نعم نعرف ونثق أن هناك مفاجأت من الروح القدس تنظرها الكنيسة جمعاء شرقًا وغربًا
شكرا 🙏🏼 دكتور عماد واسمح لي انقل المقال لصفحة الاكليروس الكاثوليكي بمصر