صداقة لا يعرف نموّها حدًّا: 50 عامًا بعد المصالحة التّاريخيّة بين الكنيسة الكاثوليكية والقبطيّة الأرثوذكسيّة
مايو 25, 2023
تحرير الإنجيليّة العربيّة من النّظام الأبوي من خلال مجتمع حاضن
يونيو 22, 2023

إعادة النّظر في صلاح الأخبار السارّة

بقلم مايك كون

عندما ألقي نظرة على المنشورات التي كتبتها في هذه المدوّنة، فإنّ أثر أفكاري المتعرّجة حول الإرساليّة يبدو واضحًا. كنت أتعامل مع النّقد الأكاديمي لتواطؤ الإرساليّة مع الاستعمار[i]. وإبّان القيام بذلك، بات صلاح الأخبار السّارة ضبابيًّا. يسعدني أن أبلغكم أنّني لم أتوقف عند هذا الحدّ.

إنّ العودة إلى القصص الأولى لجماعة أتباع يسوع جدّدت رؤيتي وأملي في الإرساليّة. تجدون هذه القصص في سفر أعمال الرّسل – قصص استثنائيّة عن صيادّين عاديّين وأتباع يعيشون تلك الأيام الصّعبة بعد صعود يسوع مباشرة وتمكين الرّوح القدس في يوم الخمسين.

هناك، الطّبيعة “المرسَلة” للجماعة هي جديدة وحيّة – فيض عفوي لقوّة الرّوح القدس التي استحوذت عليهم. إنّه “إرسال” بلا ذرائع: مليئة بالثّقة، وخالية من لعب القوّة السياسيّة، لكنّها مليئة بقوة الرّوح القدس المجدّدة.

استحوذ الإصحاح الثّامن على انتباهي بصورة خاصّة. كان الرّسل قد “أصلحوا” مشكلة كنيسة أورشليم. كانت الأرامل الناطقات باليونانيّة يشكون من استثنائهن عند توزيع الغذاء اليومي. لقد قاموا بحلّ النّزاع بتعيين سبعة قادة جدّد – “مَشْهُوداً لَهُمْ وَمَمْلُوِّينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَحِكْمَةٍ” (أعمال الرّسل 6: 3)، وبذلك تمّ تحرير الرّسل للمواظبة على خدمة الكلمة والصّلاة.

أوّل شخصين مذكورين في القائمة هما استفانوس وفيليبس. تّتكون القائمة من اسماء يونانيّة. كان هؤلاء من اليهود اليونانيّين (الهلينيين)، وهو خيار مناسب لتوفير ما ينقص في رعاية الأرامل اليونانيّات.

مع حلّ النّزاع، عاد الأمر إلى الوضع الرّاهن، والذي كان جيّدًا … جيّد جدًا. “وَكَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ تَنْمُو وَعَدَدُ التَّلاَمِيذِ يَتَكَاثَرُ جِدّاً فِي أُورُشَلِيمَ وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الْكَهَنَةِ يُطِيعُونَ الإِيمَانَ” (أعمال الرّسل 7:6).

لكن تلك الحالة السّائغة على وشك أن تتلاشى. شاول الطرسوسي كان متربّصًا. وهو ترأّس عمليّة إعدام استفانوس العلنيّة بالرّجم بالحجارة في شوارع أورشليم. وشرع في “جرّ الرّجال والنّساء” لسجنهم. والنتيجة أن المؤمنين، الآلاف منهم، تشتّتوا (أعمال الرّسل 8: 1-4).

يخبرنا لوقا، كاتب سفر أعمال الرّسل، أن التّشتّت كان مقصودًا. وبينما هم يجولون، بشّروا بالكلمة (أعمال الرسل 8: 4). واحد من السّبعة – فيليبس – هو خير مثال. صعد إلى السّامرة حيث أتت كرازته بالكلمة بثمر هائل. من هناك، تمّ إرساله في طريق صحراوي غامض ليفتح إفريقيا لرسالة الإنجيل. سأتجنب إعادة سرد القصّة بأكملها، لكنّني سأتحدّث عن بعض النّقاط التّي تساعدني لأكون شخصًا “مُرسَلًا” إلى عالمنا.

أولاً، كان فيليبس يفعل بالضّبط ما طلبه يسوع من الإثني عشر أن يفعلوه. تقدّم الآية في أعمال الرّسل 1: 8 مخطّط السفر ونموذج توسّع الإنجيل – أورشليم ويهودا والسّامرة وأقصى الأرض.

هل تُعتبر سردية لوقا تأنيبًا خفيًّا للرّسل؟ هل فعل فيليبس، في إعلانه، ما كان مقصود للإثني عشر أن يفعلوه؟ هل أعمال الرّسل 1: 8 بمثابة تفويض للكنيسة بأكملها؟ تتركنا القصّة لاستخلاص استنتاجاتنا الخاصّة.

فيما بعد، سمع الرّسل الأخبار بأنّ السّامرة قد استقبلت الكلمة  و”أرسلوا” بطرس ويوحنا. أن يأتي متأخرا خير من أن لا يأتي أبدًا. تلقّى السّامريون الرّوح القدس، كما حدث للأتباع اليهود في العليّة. وبذلك، تحقّقت رؤية يسوع الأصليّة لدخول السّامرة – أي أنّ الاثني عشر سيحصدون ما لم يزرعوه! (انظر يوحنا ٤: ٣٧- ٣٨.)

كان يسوع هناك أوّلاً. لقد تمّ إعداد “مجموعة الذين لم يتّم الوصول إليهم” من السّامريّين سابقًا لإعلان إنجيل فيليبس. وكانت النتيجة تحرّك النّاس نحو مصالحة الإنجيل والحياة – “فَكَانَ فَرَحٌ عَظِيمٌ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ!” (أعمال الرّسل 8: 8).

بعد أن أمضيت معظم حياتي كشخص بالغ في أماكن ذات أغلبيّة مسلمة، لاحظت أنّ يسوع عادةً ما يعلن أحدًا له قبل وصولي إلى مجموعة لم يتم الوصول إليها بوقت طويل. تأتي شهادة الإنجيل من خلال الخطوط الجوية، الإنترنت، المهاجرين، والمجتمع الثقافي القريب لأتباع يسوع؛ حتّى الأنظمة الدينيّة المعمول بها غالبًا ما تشير إلى مماثلات فدائيّة تمهّد الطّريق للإنجيل. على الرّغم من عدم وجود كنيسة أصليّة في مجموعة معيّنة من النّاس، إلا أنّ الأساس قائم. لقد ظهر يسوع وهو يعمل بين الناس قبل أن نصل إلى هناك. هذا لا يقلّل من شأن حقيقة أنّه أرسلنا. نحن نذهب بالتّعاون مع إمتداد متعدّد الجوانب يقوم بهندسته ربّ الحصاد.

أحبّ أنّ فيليبس لم يبقَ في السّامرة لرعاية الجماعة الجديدة هناك. ألن يكون هو الخيار الأبرز ليكون راعيًا؟ تمّ “إرساله” مرّة أخرى، هذه المرّة إلى طريق صحراوي. يتم تصوير الخصي على أنّه وزير مالية قوي لكنداكة ملكة الحبشة. أعتقد أنّ هناك قصّة غير مرويّة هناك، حيث كان الخصيان في ذلك اليوم يُجبرون عادة على أن يُخصوا للتّأكد من أنّ كفاءتهم لن تشكّل تهديدًا لمالكهم/صاحب العمل. بدون عائلة، لا يمكن للخصي أن ينقل ثروته وسلطته إلى أيّ شخص. إنّها طريقة لضمان بقاء ثروة المالك ومكانته داخل دائرة الأسرة.

لذا فإنّ الخصي هو “شخص قوي محروم من القوّة”. إنّه يمتلك نفوذًا، يتعامل مع الثروة، وما إلى ذلك، لكنّ لا شيء منها ملكه ولن ينتقل أيّ منها إلى أيّ أحد من نسله. يفترض لوقا أنّ قارئه يفهم هذه الحقيقة غير المعروفة إلى حدّ كبير للقارئ المعاصر.

 تساعدنا هذه الملاحظة السياقيّة أيضًا على فهم سبب اقتباس لوقا لهذا المقطع من إشعياء 53. وتتحدّث الأجزاء الأولى من هذا الفصل عن موت العبد بدلاً منا – “وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا” إلخ. ولكن المقطع الذي يقتبسه لوقا والذي من خلاله يعلن فيليبس الإنجيل يصوّر العبد المتألّم كضحية لا صوت لها – كنعجة أمام جازيها أو كشاة تساق للذبح.

مرّة أخرى، بدون تعليق محدّد، يُترك لنا أن نظن أنّ الخصي رأى استغلاله ينعكس في تضحية الخادم المتألّم. لم يفتح فمه. انتُزِع جيله (أي نسله) من الأرض – وهو تعبير غريب عن تجربة الخصي. وفيما أعلن فيليبس له يسوع من هذا المقطع، أراد الدخول على الفور إلى المسيح. “هُوَذَا مَاءٌ. مَاذَا يَمْنَعُ أَنْ أَعْتَمِدَ؟” (أعمال الرّسل  ٨: ٣٦) هذا المسافر الى أورشليم كان سيمنع من دخول جماعة اليهود في الهيكل (انظر التثنية ٢٣: ١)، ولكن في المسيح، كان ابنًا مرحّب به في مياه المعموديّة.

مرّة أخرى، يتضح مبدأ الشّعب المُعد سابقًا. كان الخصي مهيّئًا وجوديًّا من خلال استغلاله، ناهيك عن تعرّضه السّابق للإيمان العبري، ما لا نعرف عنه شيئًا. تماهى على الفور مع يسوع.

بالنسبة لجماهير النّازحين والمنكوبين في عالمنا، لا يزال يُسمع إنجيل الخادم المتألّم على أنّه أخبار سارّة.

كنت في الآونة الأخيرة في أحد بلدان جنوب آسيا. سعت القوى السياسيّة الحاكمة إلى إخضاع أقليّة لغويّة. تضمن جزء من غسيل أدمغتهم كان من خلال توزيع أجهزة راديو ذات موجات قصيرة حتّى يتمكن النّاس من الاستماع إلى دعايتهم الكاذبة. لكن تلك الأجهزة كانت تبثّ أيضًا الإنجيل. حدث هذا في أواخر الثمانينيات، لذا فهي تقنية قديمة في عالم اليوم، لكنّني فوجئت بقبولهم الجاهز للأخبار السّارة إذ سمعوها سابقًا. لقد أزالوا مزاراتهم الدينيّة، وأوقفوا صلواتهم وتضحياتهم لأسلافهم وبدأوا في التجمّع معًا في كنائس – كل ذلك قبل أن يأتي رسول الإنجيل إلى قراهم. بعد ثلاثين عامًا، أصبح من المستحيل إحصاء عدد الكنائس البيتيّة في تلك المنطقة.

لقد سمعوها مثل الخصي الحبشي أو السّامريين – كبشرى سارة مذهلة!

لذلك، بينما يستمر نقد ما بعد الحداثة للإرسالية بلا توقّف، لا تزال شعوب العالم تجد الإنجيل أخبارًا سارّة – تحرّر وتكرّم وتجمّل.

أفترض أنّ هناك وقتًا للانخراط في النّقد الأكاديمي للإرساليّة ما بعد الاستعمار. غير أنّ الطبيعة “المرسلة” للتلاميذ الأوائل كانت خالية من السّلطة السّياسيّة والاستغلال. إنّ سماع تلك القصص المؤثّرة من أعمال الرّسل يعيد لي الأمل في أن يكون الإنجيل أخبارًا سارّة تحرّر الشّعوب المضطهدة في عالمنا، وتملأهم بالأمل والكرامة، وتدعوهم إلى عائلة الله كأبناء وبنات. إنّها أخبار سارّة منعشة، نحتاجها بشدّة في عالمنا الفوضوي والمنبوذ. جاء يسوع ليفعل لنا وشعوب العالم ما لا يمكننا فعله لأنفسنا. لقد صالحنا مع الله، وبدوره، صالحنا مع بعضنا البعض عابرًا حدود الجنس والعرق والطبقة الاجتماعية واللغة والأيديولوجية الاقتصاديّة والسّياسيّة. هذا مذهل. إنها الأخبار السّارة التّي “تمّ إرسالنا” لمشاركتها.

 

مايك هو كاتب ومعّلم مسيحي قضى معظم حياته كراشد في الشرق الأوسط ويعيش الآن في الولايات المتّحدة. يستكشف كتابه الأخير، In Quest of the Rock: Peter’s Transformative Journey with Jesus، العديد من أبعاد تلمذة يسوع لبطرس.

 

[1]على سبيل المثال، ” إعادة النّظر في الإرساليّة” و ” إعادة التّفكير في الشّهادة المسيحيّة في الشّرق الأوسط“.

اترك رد