تحرير الإنجيليّة العربيّة من النّظام الأبوي من خلال مجتمع حاضن
يونيو 22, 2023
لبنان، القادة الفاشلون، والقادة الوكلاء كنموذج تقدّمه الكنيسة
يوليو 20, 2023

هدف الإيمان المسيحي ومعناه في مرحلة الرّأسماليّة الأخيرة

بقلم جاد تابت

لقد أصبحت مؤخرًا متعلّقًا بسلسلة رسوم متحرّكة نصحني بها صديقي بعد أن عرف أنّني أستمتع بالقصص اليابانيّة. جزء من جذب هذه القصص للعديد من الشّبيبة العرب هو أنّها تجمع بين جوانب من ثقافة العار والشّرف في الشّرق الأوسط التي نشأنا فيها وثقافة الذنب والبراءة في الغرب التي تعلّمنا عنها في نشأتنا. غالبًا ما تركّز هذه القصّص على الأبطال الذين، بدافع الحبّ لأصدقائهم وعائلاتهم ومجتمعهم  يدفعون أنفسهم إلى ما هو أبعد من ذلك لتحقيق الصّالح العام.

ومع ذلك، فإنّ ما لفت انتباهي بصورة أساسيّة، كان دائمًا كيف تمكّنت هذه الشّخصيات من الاستمرار في التّركيز على عيش حياة هادفة على الرّغم من أسوأ الظّروف المحيطة بها. في هذه القصّص، تتشبّث الشّخصيات بقوّة إحساسهم بالهدف، لا سيّما عندما يواجَهون بالإخفاق، ما يدفعهم إلى الأمام عندما يواجهون انتكاسات. أعتقد أنّ هذا الإحساس بالحياة التي يحرّكها الهدف هو مفقود من حياتنا في مجتمعات ما بعد الحداثة. ومع ذلك، يقدّم لنا المسيح هدفًا يتجاوز تفاهة الحياة التّي نختبرها كمستهلكين – منتجين، ويعطينا دورًا كوكلاء لملكوته.

في الضيقة العامّة التي أصابت العالم في أعقاب مآسي القرن العشرين وانتشار اقتصادات السّلع القائمة على الإنتاج الضّخم، ظهرت رؤية للتّاريخ على أنّه نتاج الصناعة وليس سردية للتّقدم. لم يعد الابتكار وسيلة للارتقاء بالإنسانيّة وتحوّل إلى وسيلة لتوليد الدّخل. ونتيجة لذلك، أمسى الفرد أقل استقلاليّة وأمسى منطقة خاضعة للتّأثير الثّقافي والاقتصادي. بهذا المعنى، بات كلّ جانب من جوانب حياة ما بعد الحداثة مجالًا للعمل. مع هذه القطيعة مع التّاريخ، يأتي الشّك تجاه كلّ شكل من أشكال السّرد. في مجتمع ما بعد الحداثة، فقدت الأشياء معناها، ويجب على الفرد الآن العمل لإنتاج المعنى. يعلّق ستيوارت هول على هذه الحالة في “إعادة اكتشاف الأيديولوجيا” The Rediscovery of Ideology، قائلاً:

المعنى هو نتاج اجتماعي، إنّه ممارسة. يجب أن يُصنع العالم ليكون ذو معنى. اللّغة والرّموز هما الوسيلة التي يتّم من خلالها إنتاج المعنى.

في هذا الإطار العملي، “يجب على البشر دائمًا صنع أو إنتاج عوالمهم وتاريخهم” (توماس Thomas). لكن هذا المعنى محفوف بالمخاطر لأنّه غير مرتبط بسرديّة أسمى ولكن بمجموعة من العلاقات الاقتصاديّة. وبذلك، بالنسبة لفرد ما بعد الحداثة العادي، لم يعد هناك معنى أعلى أو خير أكبر نطمح إليه، بل بالأحرى محاولة لإنتاج معاني خاصّة بنا – معاني محدودة كما نحن محدودون بقدراتنا الخاصّة في البناء، وغالبًا ما تكون واهية وسهلة التّفكيك.

ومع ذلك، إليكم المقلب الآخر: دعوة المسيح لحياتنا تتجاوز محاولاتنا غير المثمرة في نهاية المطاف في العمل على إنتاج المعنى لأنّها لا تخلق فقط سردية لنا نتعامل معها – وبالتّالي أيديولوجيّة نلتزم بها – بل بالأحرى لأنّ المسيح يخلق حالة اختباريّة لنا لنخوضها – ويساعدنا على بناء قناعات تصمد في وجه النّقد. وهكذا يقلب المسيح الطاولة على هيكليات قوّتنا ويغرس فينا معنى مشتّقًا من خبرتنا ومعرفتنا به وكلمته وملكوته. ثمّ يأخذ هذا المعنى ويدفعنا إلى الخارج ويقول: “فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ، وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ.” (متّى 28: 19-20). وهكذا، فإنّ العلاقة الحميمة الناجمة عن الاختبار مع المسيح تحثّنا، ليس فقط على أن نعيش حياة شخصيّة ذات معنى معه، ولكن أيضًا أن نخرج بإنجيله، ونشاركه مع من حولنا، ونسمح لأنفسنا بالتّشكّل من خلال اختبارنا لكلمته.

لكن ماذا يعني هذا لنا ككنائس؟ كأعضاء في جسده، قد يفترض المرء أنّنا نعيش بالفعل في حقّه، حيث ينبثق معنانا وهدفنا من الآعالي. ولكن إذا كان هذا هو الحال، فلماذا إذًا تحوّلت العديد من كنائسنا – في رأيي – إلى نوادٍ اجتماعيّة تلتقي للتذمّر من “العالم الساقط” دون بذل الكثير من الجهد لتغييره؟ ولماذا نواجه خسارة كبيرة جدًا في صفوف شبيبتنا؟ من ناحية، ترجع هذه المشكلة إلى سقوطنا في مأزق مرحلة الرأسماليّة الأخيرة دون أن ندرك ذلك، حيث تقع شبيبتنا فريسة لأنظمة من صنعنا.

أعتقد أنّ المشكلة هي أنّها بينما نروّج لفكرة الكنيسة المرسلة التي تخرج إلى مجتمعها من خلال جميع جوانب حياة أعضائها – بما في ذلك ما نعتبره جوانب ثانوية مثل العلاقات التي لدينا مع البقّالة المحليّين – يبقى مفهومنا للخدمة متجذّرا في الخدمات التي نقدّمها بين جدرانّنا الأربعة. لا يزال يتعيّن علينا أن نحيا بالكامل مفهومنا عن الله باعتباره الرّب على كلّ جزء من حياتنا، وخاصّة الأجزاء التي خارج الكنيسة. وهذا ينطبق بصورة أكبر على شبيبتنا، الذين لم يجدوا بعد هدفهم في المسيح، يغمرهم فيضان المعاني الجذّابة والمدمّرة في النّهاية التي قدمها لهم العالم، وبالتّالي يبدأون في السّعي وراء الهدف كما هو مقدّم لهم. أعتقد أنّ والدي فهم الأمر بصورة أكثر فاعلية عندما قال:

يختلف اختبار المسيح لأعضاء فريق خدمة الكنيسة والقادة الذين يعيشون 80٪ من حياتهم في الخدمة عن اختبار الأشخاص الذين يختبرونه فقط أيّام الأحد والأربعاء. وبالتّالي، هذه حقيقة نحتاج إلى تغييرها.

على مدى الشّهرين الماضيّين، شارك وليد زيلع، العميد الأكاديمي في كليّة اللّاهوت المعمدانيّة العربيّة وراعي الكنيسة التي أنتمي إليها، مرارًا وتكرارًا في وعظاته بأنّ خدمة الكنيسة هي أكثر بكثير من الخدمات القليلة التي نقدّمها في قاعات اجتماعات كنيستنا والمباني. يأتي أحد اقتباساتي المفضّلة من وعظة ألقاها قبل بضعة أسابيع حيث قال،

كلّ جانب من جوانب حياتنا هو خدمة. إذا قمت بتربية أطفالي بأمانة متشبهًا بالمسيح، فهذه خدمة. إذا قمت بعملي بصورة جيّدة، فهذه خدمة. إذا قلت لا للفساد، فهذه خدمة. إذا شجعت شخصًا ما في الشّارع، فهذه خدمة. ما نفعله في الكنيسة يوم الأحد هو جزء صغير من ذلك، ولكن ما نفعله بين تلك الآحاد هو ما يجعلنا ملكه.

ربّما إذا تمكّنا كمؤمنين من التّشبّث بالمسيح والتّعمق أكثر في إحساسنا بالهدف في المسيح، لا سيّما في الأمور الصّغيرة، فيمكننا أيضًا أن نكون مثل أبطال سلسلة الرّسوم المتحركة الخاصّة بي: ملتزمون بما يتجاوز اليأس والشّجاعة في مواجهة التّحدي، على استعداد لإعطاء القلب والعقل والرّوح من أجل نمو مقاصده في حياتنا، هو الذي تغلّب على الموت وحرّرنا من قيود الخطيئة. وعلى الرّغم من أنّ هذه الجوانب قد تبدو وكأنها جوانب غير مهمّة في حياتنا، إلّا أنّه في مجموعها الكلّي يصبح المسيح حقًّا ربًّا على حياتنا. هنا نصبح ملحًا ونورًا، ونساعد الآخرين أيضًا على أن يجدوا هدفًا أعظم من أنفسنا بل ذلك الذي لا يتوقف أبدًا عن منح الرّجاء.

جاد يعمل في قسم علاقات الشّركاء في كليّة اللّاهوت المعمدانيّة العربيّة ويخدم في كنيسة الإيمان في المنصورية في العبادة وخدمة الشبيبة. وهو حاصل على درجة الماجستير في في الأدب الإنجليزي ومحور تركيز أطروحته قراءة ذاتية ما بعد الحداثة في المرحلة الرأسمالية المتأخّرة. لديه شغف بالتفكيكيّة المسيحيّة ويبحث عن طرق لاستخدامها بشكلٍ بنّاء.

اترك رد