لبنان، القادة الفاشلون، والقادة الوكلاء كنموذج تقدّمه الكنيسة
يوليو 20, 2023
خطيئة التّكلّم عن الخطيئة
أغسطس 17, 2023

هل التّسامح هو العامل الفصل الوحيد؟

بقلم وليد زيلع

يبدو أنّ المجتمعات المعاصرة قد تخلت عن فكرة السردية الشاملة الواحدة – القصّة الواحدة – التي تحدّد وجودها. بدلاً من ذلك، نعتمد اليوم أكثر على مفهوم “التّسامح” لتعزيز التّعايش السّلمي بين الأفراد والمجتمعات المتنوّعة. على الرّغم من أنّ التّسامح هو قيمة إيجابيّة، إلّا أنّه أصبح القوّة الدافعة الأساسيّة خلف مسائل الحياة والأخلاق وفي معظم تفاعلاتنا الاجتماعيّة.

كمسيحيّين، اعتنقنا أحيانًا فكرة “التّسامح” كوسيلة للبقاء وتجنّب الرّفض أو الاضطهاد. في العصر الحديث، بات العديد من المسيحيّين أكثر تقبّلًا.

ما هو موقف الكنيسة من التّغيّيرات الجديدة والمعقدّة التّي تواجهها مجتمعاتنا؟ تغيّيرات مثل الحركات المتزايدة لممارسات مجتمع الميم عين وتأثيرها على العائلات والأطفال؛ أين تقف الكنيسة عندما تتّحدى مثل هذه الممارسات تعاليمنا الكتابيّة وتتّعارض مع قيمنا؟ في مجتمع لا يوجد فيه تسلسل هرمي واضح للقيم لتوجيه سلوكنا، وحيث يتّم تشجيع الأفراد على اتباع مشاعرهم ورغباتهم، ما هو موقف الكنيسة من كلّ هذا؟

بصفتي راعيًا لكنيسة محليّة، غالبًا ما أتعامل مع قضايا معقدّة مثل كيفيّة معالجة الانتشار المتزايد للفساد في مجتمعنا الشّرق أوسطي، حيث لا يزال يُنظر إلى الأسرة في نسيجها التّقليدي على أنّها الرّكيزة الأساسيّة لمجتمع وكنيسة سليمين. أسعى جاهدًا للتّعامل مع هذه التّحديات بمحبّة ورحمة، مع الحفاظ على مبادئ إيماني والكتاب المقدّس. إنّه سؤال أواجهه بصورة منتظمة. كمسيحيّين، ما هي العواقب المتوجّبة إذا ما اخترنا التزام الصّمت واعتناق التّسامح مع كلّ ما هو حولنا؟

يصف الكتاب المقدّس في الآية الأخيرة من سفر القضاة مجتمعًا يفعل فيه الأفراد ما يحلو لهم، على غرار مفهومنا الحديث للنسبيّة، الذي يدّعي أنّ جميع الأحكام مرتبطة بمنظور المراقب أو سياقه. تشير النسبيّة إلى أن جميع وجهات النّظر صحيحة بصورة متساوية، لكن سفر القضاة يدين هذا المنظور عندما يخبرنا: “فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ. كُلُّ وَاحِدٍ عَمِلَ مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْهِ” ( القضاة 25:21).

هل نتحوّل كمسيحيين إلى مجتمع يتم فيه التّسامح مع كلّ شيء وقبوله؟ يتحدّث الكتاب المقدّس عن مجتمع مماثل من التّسامح حيث تم التّسامح مع الخطيئة وعدم محاسبتها، وحيث يفعل الجميع ما يحلو لهم. يحتوي إشعياء 5 على مثل يصوّر كرمةً مخيبةً للآمال، على الرّغم من كلّ جهود مالك الأرض، لم ينتج عنها سوى عنب سيّء. بالنسبة للقارئ المعاصر، كان من السّهل أن يفهم ما تمثله هذه الكرمة. ولكن لم يتمكّن سامعو إشعياء من ربط المثل بأنفسهم إلّا في وقت لاحق. كانت الجهود المبذولة في زراعة العنب كبيرة في العالم القديم، بين حراثة التربة وإزالة الحجارة وزراعة أجود أنواع العنب؛ لم يكن حجم العمل هو المهم فحسب، بل أيضًا الوقت اللازم لحصاد الثّمر الباكر. احتاج المزارع إلى الانتظار عامين للحصول على أوّل حبّة عنب. لاحظ السّامعون نوع العنب الذي أنتجه هذا الكرم: عنبًا لا قيمة له. أمّا بالنسبة للسؤال عمّا سيحدث الآن في هذه العلاقة بين المزارع والكرم، تصبح الإجابة أكثر وضوحًا في الآية 7 – فإنّ هذا المثل كان يصف العلاقة بين الله وشعبه. وصفت القصّة نوع العنب التي كان الله ينتظرها من كرمه، أي شعبه. لقد توقّع العدل والحقّ، لكنّه رأى سفك الدّماء وسمع صرخات الضّيق. فكان رّد الله: ” فَالآنَ أُعَرِّفُكُمْ مَاذَا أَصْنَعُ بِكَرْمِي. أَنْزِعُ سِيَاجَهُ فَيَصِيرُ لِلرَّعْيِ. أَهْدِمُ جُدْرَانَهُ فَيَصِيرُ لِلدَّوْسِ. وَأَجْعَلُهُ خَرَاباً لاَ يُقْضَبُ وَلاَ يُنْقَبُ فَيَطْلَعُ شَوْكٌ وَحَسَكٌ. وَأُوصِي الْغَيْمَ أَنْ لاَ يُمْطِرَ عَلَيْهِ مَطَراً. إِنَّ كَرْمَ رَبِّ الْجُنُودِ هُوَ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ وَغَرْسَ لَذَّتِهِ رِجَالُ يَهُوذَا. فَانْتَظَرَ حَقّاً فَإِذَا سَفْكُ دَمٍ وَعَدْلاً فَإِذَا صُرَاخٌ. وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَصِلُونَ بَيْتاً بِبَيْتٍ وَيَقْرِنُونَ حَقْلاً بِحَقْلٍ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ” (إشعياء 5: 5-7).

في هذا العالم المنكسر، غالبًا ما نجد أنفسنا في مواجهة تحدّيات وعقبات تتّطلب منّا بذل الجهود والسّعي للتغيّير. خلال هذه الأوقات، يجب علينا كمسيحيين أن نوسّع امتداد تسامحنا وفهمنا تجاه الآخرين الذين هم في مسيرة تحوّل شخصيّة. على غرار المزارع في مثل إشعياء 5 الذي استثمر أرضه ورعاها بصبر، يمكننا أيضًا الاستثمار في من حولنا من خلال دعمهم في مساعيهم لإصلاح الأمور.

يتّطلب التّواجد بجانب شخص ما خلال أوقاته الصّعبة التّعاطف والرّحمة. يتطلّب الأمر إدراك صراعهم ومدّ يد معينة أو أذن مصغية. ومع ذلك، قد يكون من المستحيل التّسامح مع سلوك شخص ما عندما يستمر في الانخراط في أفعال دون الاعتراف بالحاجة إلى التّغيير. لقد أخطأنا جميعًا، غير أنّ الكبرياء في خطايا المرء يشير إلى عدم فهم عواقبها، والتي يمكن ألا تضّر فقط من يفعلها ولكن من حولهم أيضًا. في حين أنّه من المهم أن نسامح ونتسامح، من المهم أكثر أن نقول الحقّ بمحبة.

بالعودة إلى مثال مجتمع الميم عين، كانت هذه الحركة بلا شك تطوّرًا بارزًا في مجتمعنا، عالميًّا ومحليًّا. جلب هذا النّمو معه مطالب الاعتراف، غالبًا فيما أعتقد أنه يتناقض مع إيماننا وقيمنا المسيحيّة.

في نهاية المطاف، فإنّ قرار الاستسلام أو التّحدث علانيّة يقع على عاتق كلّ فرد أو جماعة. قد يختار بعض المسيحيّين تكييف وجهات نظرهم وتبنّي مطالب مجتمع الميم عين وممارساته، مع الاعتراف بأنّ المجتمع يتطوّر وأنّ الاحتضان والقبول يتوافقان مع القيم المسيحيّة الأساسيّة مثل المحبّة والرّحمة والقبول والمساواة. قد يشعر الآخرون بأنّهم مجبرون على الوقوف بحزم، معتبرين أيّ انحراف عن التّعاليم التّقليدية خطيئة وخيانة لمبادئ الكتاب المقدّس. أيّا كان المسار الذي يتّم اختياره، ستكون هناك عواقب بلا شك. ومع ذلك، بغض النّظر عن قرار الكنيسة، يجب أن يكون بدافع المحبّة والرّحمة لجميع الأفراد.

في ضوء هذه التّطورات المجتمعيّة، يتساءل الكثيرون ما موقف الكنيسة. هل ينبغي للكنيسة أن تتوافق مع التّغيرات المجتمعيّة، أم ينبغي عليها أن تتّحدث ضدّ ما تعتبره تحدّيات لإيمانها وتعاليمها الكتابيّة؟ تثير هذه الأسئلة اعتبارات مهمّة حول الإيمان والتّسامح والثمن الذي يمكن دفعه مقابل اتخاذ موقف. يكمن التّحدي في إيجاد طريقة للتعامل بمحبّة وتفاهم دون المساومة على استقامتنا اللاهوتيّة. في مواجهة هذا التّحدي، من المهم التّفكير في المبادئ الأساسيّة لقناعاتنا اللاهوتيّة. هل هي متجذّرة في ما يعلّمه الكتاب المقدس بصورة صريحة وثابتة عن السلوكيات الجنسيّة، ومتجذّرة أيضًا في المحبّة واللطف والعدالة؟ الصدق هو المفتاح طوال هذه العمليّة. الصدق يسمح بالانخراط دون المساومة على نزاهتنا اللاهوتيّة. إيجاد مسار للمضي قُدمًا يتطلّب تبني التّعقيدات والسّعي لخلق مساحة آمنة حيث يمكن إجراء حوار حقيقي. في هذا الإطار، أنا شخصيًا أؤمن أنّ مسؤوليّة الكنيسة كشعب الله أن تعبّر عن وجهة نظرها الكتابيّة واللاهوتيّة. تقع على عاتق الكنيسة مسؤولية الوفاء بالتزاماتها الكتابيّة داخل رعيّتها وخارجها، من خلال كونها جسد المسيح الذي يؤثّر على مجتمعها المحلي والعالم الأوسع.

 

وليد هو العميد الأكاديمي لكليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة وراعي كنيسة الإيمان المعمدانيّة الإنجيليّة في المنصورية، لبنان.

اترك رد