بقلم إيلي حداد
في مقال صدر حديثًا في مدوّنة كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة، أعرب وليد زيلع عن قلقه من محافظة الكنيسة على وفائها لقناعاتها اللاهوتيّة في خضم مجتمع لا يشترك في سردية شاملة موحّدة. يحاجج وليد أنّ التّسامح لا ينبغي أن يعني أن تبقى الكنيسة صامتة بشأن القضايا التي تعتقد أنّها ضارة بالأسرة والكنيسة. كان استنتاجه أنّنا بحاجة إلى إيجاد طريقة “للانخراط بمحبّة وتفاهم دون المساس بنزاهتنا اللّاهوتيّة.”
ما هي النّزاهة اللّاهوتيّة؟ من أين نحصل على مفهومنا للصّواب والخطأ؟ من يقرّر ما هي تعاليم الكتاب المقدّس الملائمة لنا اليوم؟ من الشّائع في أيامنا هذه عن محبّة الله وحنانه ورحمته ونعمته وقبوله وتسامحه. لكنّ الحديث عن عدل الله وقدسه ليس شائعًا. حتّى أنّه بات من غير المناسب للكنيسة أن تتعامل مع موضوعات غضب الله ودينونته، أو الخطيئة والتّوبة. عندما تتناول الكنيسة هذه الموضوعات، فإنّها تُعتبر في كثير من الأحيان حصريّة وديّانة وغير متسامحة، بل وحتّى متعصبّة.
في عصر الحقيقة النّسبيّة، لم يعد من المقبول تحديد مواقف وسلوكيّات معيّنة على أنّها خاطئة. يعتبر هذا مسيئًا. على النّاس أن يقرّروا بأنفسهم ما هو السّلوك المناسب وما هو غير المناسب. من نحن لندين الآخرين؟
هذه ليست معضلة جديدة. إنّ معركة المنظور الذي نتطلّع فيه إلى العالم قديمة جدًا. لا ينبغي أن نتفاجأ أبدًا عندما يتصرّف العالم على غرار العالم. وهذا أمر طبيعي ومتوقّع. ولكن عندما لا تتّصرف الكنيسة ككنيسة، فهنا تكمن المشكلة. النّاس أحرار في العيش في الخطيئة. هذا هو حقّهم. يدعو الله النّاس إلى علاقة معه بدلاً من إكراههم. غير أنّ ما يقلقني هو أنّ العديد من الكنائس هذه الأيّام على استعداد لإعادة تحديد ماهية الخطيئة لإرضاء العالم. لم يعد الحديث عن خطايا معيّنة أمرًا رائجًا. إذا فعلنا ذلك، يتّم تصنيفنا على أنّنا من الطّراز القديم ومتخلّفين.
يؤكّد الرّسول بولس، في 1 تسالونيكي 4، أنّ “هَذِهِ هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: قَدَاسَتُكُمْ.” أجد أنّه من الجدير للاهتمام أن يهتّم الله بقداستنا أكثر من سعادتنا. إنّه مهتم بأن نكون منفصلين أكثر من أن ننسجم مع العالم ونصبح غير مميّزين عنه. ثمّ يفكّك بولس ما يعنيه بهذه العبارة: ” أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الزِّنَا؛ أَنْ يَعْرِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أَنْ يَقْتَنِيَ إِنَاءَهُ بِقَدَاسَةٍ وَكَرَامَةٍ، لاَ فِي هَوَى شَهْوَةٍ كَالأُمَمِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ اللهَ.” لماذا؟ ” لأَنَّ اللهَ لَمْ يَدْعُنَا لِلنَّجَاسَةِ بَلْ فِي الْقَدَاسَةِ..” لابدّ أنّ أهل تسالونيكي قد فهموا بوضوح ما قصده بولس بهذه الخطايا الجنسيّة. ليس من الصّعب علينا اليوم أن نفهم ما قصده أيضًا. المشكلة هي أنّنا نرى أنه من الصّعب قبولها، وبالتّالي فإننا نميل إلى إعادة تعريفها. يختلف موقف العالم تجاه الجنس اليوم عمّا كان عليه في أيّام بولس. جميع أنواع الخطايا الجنسيّة مقبولة ومبرّرة. لقد فقد العالم حتّى مفهوم الإثم والشّذوذ. في ظل هذه الخلفيّة، ما الذي ينبغي على الكنيسة أن تبّشر به وتعلّمه؟
ثمّة قوائم عديدة للرّذائل في الكتاب المقدّس. في غلاطية 5، يكتب بولس عن التّوتر بين شهوات الجسد ورغبات الرّوح. ثمّ يعرّف أَعْمَالُ الْجَسَدِ: الَّتِي هِيَ زِنىً، عَهَارَةٌ، نَجَاسَةٌ، دَعَارَةٌ، عِبَادَةُ الأَوْثَانِ، سِحْرٌ، عَدَاوَةٌ، خِصَامٌ، غَيْرَةٌ، سَخَطٌ، تَحَزُّبٌ، شِقَاقٌ، بِدْعَةٌ، حَسَدٌ، قَتْلٌ، سُكْرٌ، بَطَرٌ، وما شابه ذلك.”
من الواضح أنّ بولس يعتقد أنّ الخطايا الجنسيّة تضّر بحياة الكنيسة وشهادتها. لكن ليس فقط تلك. إنّ الخطايا المنتشرة في ثقافاتنا التي تتسلّل إلى كنائسنا ويمكن أن تصبح سلوكيّات مقبولة أوسع من ذلك. تتّضمن القائمة الواردة في رسالة غلاطية الرّذائل التّي قد لا تكون واضحة من الخارج، مثل عَدَاوَةٌ، خِصَامٌ، غَيْرَةٌ، سَخَطٌ، تَحَزُّبٌ، شِقَاقٌ، بِدْعَةٌ، حَسَدٌ. هذه قائمة بالخصال المتمحورة حول الذات والتي تخدم الذات. هل من الممكن أن تتجلّى العديد من الرذائل في هذه القائمة في كنائسنا اليوم من خلال مواقف وسلوكيّات مثل الوصوليّة، والماديّة، والاستهلاكيّة، والتّنافسيّة، والانقسام السّياسي، والانشقاق، وغيرها على غرار ما نجده في العالم؟ مرّة أخرى، أجد أنّه من الجدير للاهتمام أنّ إرادة الله هي قداستنا، وليس ازدهارنا. هل نحن متميّزون أم لا يمكن التفريق بيننا وبين العالم؟
ثمّة شعور متزايد في كنائسنا بأنّ العديد من الخطايا المحدّدة في العهد الجديد لم تعد ذات صلة بنا اليوم. المنطق هو أنّ العالم قد تغيّر، ونحن لا بدّ أننا نعرف الآن أكثر وأفضل. أنا لست مرتاحًا لهذا النّوع من التّفكير.
أوّلاً، أعتقد أنّ مصدر أخلاقنا لا يقوم على القيم الثقافية المتغيّرة ولكن على إرادة الله وشخصه الثابتة. حقيقة أنّ شخص الله وإرادته لا يتماشيان مع العالم اليوم لا تعني أنّ التعاليم الأخلاقيّة الكتابيّة قد عفا عليها الزمن وباتت قديمة الطراز. نحن بحاجة إلى استعادة نزاهتنا اللاهوتية من خلال الالتزام بقانون الله الأخلاقي، بغضّ النظر عن مدى صعوبته أو عدم شعبيته. ليس هناك شك في أنّ التفكير اللاهوتي، مثله مثل أيّ مجال آخر، قد تطوّر ونضج على مرّ السنين بسبب التقدّم في الدراسات الكتابيّة والاستجابة لعالمنا المتغيّر. ومع ذلك، إذا قادنا تقدّمنا للنظر إلى شخص الله بطريقة تروق لعالمنا الخاطئ والساقط اليوم، فإنّنا نصيغ الله وفقًا لصورتنا الخاصّة.
ثانيًا، ثمّة مشكلة في الاعتقاد بأنّ مجتمعنا قد وصل اليوم إلى مكان يمكننا فيه بثقة أن نحكم على ما هو صائب وما هو خاطئ وما هي التعاليم الكتابيّة الملائمة لحياتنا اليوم. هذا التفكير ليس جديدًا. فكلّ جيل يميل إلى التفكير بهذه الطريقة. كتب سي. إس. لويس في كتاب “المسيحية المجرّدة” Mere Christianity عن موقف “القبول غير النقدي للمناخ الفكري لعصرنا” (ص 10) ووصفه بأنّه تكبّر زمني. إنّه التفكير في أنّ ما كنّا نفكّر فيه ونقدّره في الماضي لا بدّ أن يكون أدنى شأنًا ممّا نفكّر فيه ونقيّمه اليوم. لذلك، يقترح لويس أن نقرأ كتابًا قديمًا مقابل كلّ كتاب جديد نقرأه. نحن بحاجة إلى مساعدة العصور الماضية لنرى عصرنا بصورة أكثر وضوحًا، للمساعدة في تحديد المناطق المحجوبة عن نظرنا.
ثالثًا، إذا سمحنا لأنفسنا ان نقف حاكمين على تعاليم الكتاب المقدّس، فكيف يمكن للكتاب المقدس أن يغيّرنا ويشكّلنا؟ يجادل روبرت مولهولاند، في كتابه “التشكيل بالكلمة” Shaped by the Word، بأنّه لا ينبغي لنا أبدًا قراءة الكتاب المقدّس بالطريقة التي نقرأ بها المواد الأخرى. نحن لا نقرأ الكتاب المقدّس بناءً على افتراضاتنا. بل عندما نقارب الكتاب المقدّس، نحدّد افتراضاتنا ونعترف بها، ونضعها جانبًا، ونسمح للنّص الكتابي بقراءتنا وكشف افتراضاتنا وقيمنا وثقافتنا وعالمنا. نحن لا نتلاعب بالنّص ليتماشى مع قيمنا الثقافية. بل نقرأ النّص لنحدّد أنفسنا في قصّة الله.
أنا مقتنع أنّه عندما تتماهى وجهات نظر الكنيسة مع العالم، تفقد الكنيسة صوتها وتبيت غير ملائمة. تفقد ملوحتها وقدرتها على عكس نور الله. أعتقد أنّه هنا تكمن المفارقة: عندما تحظى رسالة الكنيسة بالقبول على نطاق واسع والتأييد من قبل العالم، تكون رسالة الكنيسة غريبة عن الإنجيل. محتوى الإنجيل لم يتغيّر. الإنجيل هو أخبار سارّة اليوم ليس لأنّ الخطية لم تعد مهمّة. إنّها أخبار سارّة لأنّه لدينا مخلّصًا لديه علاج للخطيئة.
أعتقد أنّ دور الكنيسة ليس تجنّب الإساءة إلى العالم. بل معالجة الخطيئة والانكسار في العالم بأمانة، ومحبّة الخاطئ والمكسور بكلّ شغف، والسعي باجتهاد للنمو على شبه يسوع، والإعلان عنه بمحبّة كعلاج لجميع آفات العالم. هذا، بلا شكّ، سيجعل الكنيسة لا تحظى بشعبيّة. سيؤدّي هذا حتّى إلى إثارة العداوات والمعارضة من المجتمع ككل ومن الهيئات الحاكمة. إذًا ما الذي قد نخاف منه؟ أن نفقد الامتيازات؟ أن نبدو منغلقي الذهن وقديمي الطراز؟ وماذا إذًا؟ إنّ ربح العالم للمسيح ليس أبدًا مسابقةً للفوز بالشعبيّة. إنّها مسيرة معرفته في شركة آلامه.
إيلي حدّد هو رئيس كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة ويمتلكه شغف كبير أن تكون الكنيسة كنيسة بكلّ ما في الكلمة من معنى في عالمنا اليوم.