بقلم إيليا شلبي اسحق شحاته
بدأ اعلان الأخبار السارة الخاصة بفداء المسيح أولا شفاهية، وبعد حين وتحت قيادة الروح القدس تم تدوين رسالة الأنجيل باللغة اليونانية – وهي اللغةالأكثر انتشارا في ذلك الزمن – وباللهجة العامية (الكويني) لكي تصل رسالة الخلاص على وجه مفهوم ومبسط وواضح إلى رجل الشارع بلغته المحكية. عندما دون الأنجيل باليونانية، كان قد تُرجم في الأصل من اللغة الآرامية المحكية.
الأمر عينه من ناحية الترجمة، فكان الهدف من الترجمة هو نقل رسالة الإنجيل من لغة إلى لغة أخرى على وجه واضح وبسيط مخاطبا عامة الناس في المقام الأول بحسب وصية الرب يسوع أن نتلمذ جميع الأمم. لطالما كانت ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات المختلفة من أهم مسؤوليات الكنيسة ورجال الله عبر التاريخ لكي يتمتع كل انسان بنعمة الله وخلاصه في المسيح.
ليس للمسيحية لغة مقدسة أو سماوية، وهذا ما يميز الترجمة في الفكر المسيحي عن السياق الإسلامي المحيط. في الإسلام، اللغة العربية هي اللغة المقدسة فهي لغة الصلاة وعند البعض هي لغة أهل الجنة، لهذا لا توجد ترجمة لنص القرآن، بل لمعاني القرآن. وفقًا لعلماء الدين الإسلامي، فإن النّص العربي للقرآن بحدّ ذاته مقدّس.
ربنّا يسوع المسيح هو كلمة الله الأزلي المتجسد، وبما أنّنا نلتقي بيسوع المسيح من خلال الشهادة المكتوبة عنه في الكتاب المقدس، فمن المهم للغاية أن يتمكّن كلّ إنسان من الوصول إلى الكتاب المقدّس وفهم محتواه، حتّى يتمكّن من لقاء يسوع المسيح والاستمرار في لقائه. إنّ هدف التّرجمة في الفكر المسيحي هو إيصال الأخبار السّارة بصورة واضحة لكلّ إنسان، في كلّ مكان، وبكلّ اللّغات، ليشهدوا لغنى محبّة الله وفدائه للعالم أجمع في المسيح.
انطلاقا من لغة الشارع واستمرارا لرفقة الله مع الإنسان في الشارع سواء في الجنة في بداية الخليقة (تك3: 8) أو في شوارع إسرائيل في تجسد الرب يسوع (يو1: 14)، تم ترجمة الكتاب المقدس إلى عدة لغات بالعامية خلال القرون الأولى للمسيحية، فتُرجم للسريانية وسميت “البشيطا ” أي “البسيطة” ونفس الأمر تقريبا من خلال الترجمة اللاتينية والتي سميت ” الفولجاتا ” أي ” الشعبية”. أختلف الأمر في العصور الوسطى حيث سيطرت اللغة اللاتينية الكلاسيكية ربما يكون السبب هو تحول المسيحية من حركة ايمانية إلى شكلها المؤسساتي واتجاهها للتعليم المدرسي الذي يتسم بسمو التفكير العقلي وباللغة الفصحى البليغة التي تليق بالتعبير عن اللاهوت المسيحي. لكن وأسفاه، صار الكتاب المقدس سجين لغة النخبة فبنت حاجزا منيعا أمام عامة الشعب لقراءة وفهم الكتاب المقدس.
من أهم ميزات عصر النهضة Renaissance في القرن الرابع عشر، هو ارتفاع صوت اللغة العامية التي تمثل “صوت الشعب” على حساب اللغة اللاتينية الكلاسيكية الرسمية التي تمثل صوت النخبة حيث تسيدت الأخيرة في التعبير عن كل أمور الدنيا والدين لمدة أربعة عشر قرنا من الزمان. لعل أكثر ما جسد ثورة اللغة العامية في تلك الفترة هو دانتي ذلك الشاعر الإيطالي الذي استطاع أن يصيغ من اللغة الإيطالية الشعبية الفقيرة واحدة من أبلغ الأعمال الأدبية وهي ” الكوميديا الإلهية “.
أثرت ثورة اللغة العامية على الإصلاح الكنسي في أوربا وعلى وجه خاص في السعي لترجمة الكتاب المقدس إلى لغة الشعب لتمكين عامة الناس من قراءة حق الإنجيل وفهمه ليتمتع بالرفقة الإلهية. هذا ما دفع جون ويكلف لترجمة الكتاب المقدس من اللاتينية الفصحى إلى الإنجليزية العامية. أتخذ مارتن لوثر خطوة أبعد إذ ترجم الكتاب المقدس من اللغات الأصلية إلى الألمانية العامية لتصل كلمة الله إلى كل انسان. فإن كانت حركات الإصلاح عبر التّاريخ قد ركّزت على إعلان الكتاب المقدّس وحاولت جعله في متناول الجميع بلغتهم المنطوقة، فكم بالحري تحتاج كنائسنا اليوم إلى مواصلة ممارسة إصلاح الكنيسة من خلال اتخاذ المبادرات أو دعم المبادرات لترجمة الكتاب المقدّس الى اللغات العاميّة للنّاس؟
في عالمنا العربي اليوم، نعاني من مشكلة ازدواجية اللغة، بمعنى أخر، يتحدث الناس بلغة في حياتهم اليومية (اللغة العامية)، لكننا نكتب بلغة أخرى نتعلمها في المدارس (اللغة الفصحة). وهذه الازدواجية بحسب لويس عوض تسببت في اصابة التعبير الوجداني التلقائي بالشلل وأغلقت على التعبير العاطفي واستخدام الخيال في سجون البلاغة التقليدية بعكس اللهجة العامية التي تتسم بالحيوية والتعبير الصادق في وصف الحياة والطبيعة. فإن كان تعريف اللغة العامية بحسب دانتي: هي اللغة التي نتعلمها بتلقائية من خلال محاكاة مرضعاتنا، فبالأولى أن يتم استخدامها في ترجمة الكتاب المقدس لأنها تظل اللغة الأقرب إلى قلوبنا.
اليوم، في سياقي المصري، توجد بعض الأعمال الفائقة الجودة في ترجمة الكتاب المقدس للهجة العامية سواء مكتوبة او مسموعة. صدر حديثا عن جون دانيال[1] لترجمة رسائل بولس للهجة العامية المصرية في مشروع مستمر لإنجاز كل اسفار العهد الجديد مكتوبا باللهجة العامية. الجدير بالذكر بأن هذا العمل الذي كان يجب أن تقوم عليه لجنة من الأشخاص المتخصصين، فان دانيال يقوم به منفردا. تتميز هذه الترجمة بعدة خصائص: 1- جودة الصياغة حيث اهتمت بسلاسة الألفاظ المستخدمة من اجل توصيل المعنى بسلاسة. 2- اعتمدها النص اليوناني القياسي (النص النقدي وليس النص المستلم) لأنّه اعتمد على أقدم المخطوطات اليونانيّة في ترجمة النص الأقرب إلى الأصل. وهذه ميزة مهمّة جدًا في هذه الترجمة لأنّها تتطلب متخصصًا في اللغة اليونانية القديمة والقدرة على الوصول إلى أحدث الأوراق البحثية الملائمة. 3- الحواشي الغنية.[2]
أما فيما يخص الترجمة الصوتية التي لها وقع خاص في تلاوتها على أذان المستمعين وعلى وجه خاص للمجتمع (ثمة الكثير من الناس في عالمنا العربي لا يستطيعون القراءة)، فهي تطرب أذان المستمعين بعزوبة الألفاظ المألوفة لقلوبنا وبساطة المعاني، دون التعقيد المرهق في كثير من الأحيان للصرف والنحو العربي. علاوة على ذلك، قدّم الممثل المصري ماجد الكدواني تحفة فنيّة عندما قام بترجمة صوتيّة باللهجة الصعيديّة المصريّة للعديد من أسفار الكتاب المقدّس. انقر هنا للحصول على رابط[3] لكتاب الأمثال، كمثال على أدائه الرّائع، وعلى التّرجمة.
خلال هذا المقال، حاولت أن أجادل حول أهميّة الإنتاج المستمر ودعم ترجمات الكتاب المقدّس باللّغة العربية العاميّة، مع التّأكيد على أنّ ثمّة حاجة ملحّة للترجمات بلغة قلوب النّاس. أنا أشجّع قادة الكنيسة على النّظر إلى فترة الإصلاح لكي يستلهموا ويستمروا في ممارسة حركة الإصلاح. يمكننا أن نفعل ذلك ونتقدّم بصورة كبيرة نحو تلمذة التّلاميذ من خلال تشجيع المؤسّسات والمتخصّصين والمترجمين لإنتاج المزيد من ترجمات الكتاب المقدّس بلهجات أحيائنا.
إيليا شحاتة هو مسؤول الخدمة في كليّة اللاهوت المعمدانيّة المعمدانيّة. حصل على درجة ماجستير في الإلهيات في عام 2015 ويدرس الآن للحصول على شهادة ماجستير في اللاهوت في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة. وهو مهتم بصورة خاصّة بخدمة التّلمذة وتسييق الرّسالة المسيحيّة.
[1] جون دانيال، مدرس للغة اليونانية القديمة وعلم الترجمة والعهد الجديد لأكثر من 15 عاما في كلية اللاهوت الانجيلية المشيخية بمصر.
[2] نموذج لغني الحواشي هو ترجمته وتعليقه على نص (1كو6: 12): ” هتقولي “كله ماشي”، هقولك “بس مش كل حاجة هتجيبلك الخير”، هترجع تقولي “بقولك كله ماشي” هقولك برضه “بس أنا مفيش حاجة تتحكم فيّ” حيث جاء في الحواشي هذه الملحوظة الهامة: ” فكرة ما يجوز مقابل ما ينفع كانت شائعة في هذا الوقت فنجد الفيلسوف الرواقي إبيكتيتوس في مقاله الرابع (Epictetus (Discourse 4.4.1 وكذلك المؤرخ بلوتارخوس في كتابه “أقوال أهل سبارطة” Plutarch, Mor 236BC: Apoph. Lac 65 يستخدما فكرة مشابهة لفكرة بولس وايضًا في يشوع ابن سيراخ 37: 28.”
جون دانيال، رسايل بولس: قراءة عامية توضيحية: الجزء الأول، روما – رسالتا كورنثوس، 144، 145.