كلمة الله بلهجة حارتنا
سبتمبر 14, 2023
مستويات السلام: أبرز ما ورد في مؤتمر الشرق الأوسط لعام 2023 في كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة
أكتوبر 12, 2023

الدور الخطير الذي يلعبه الإعلام في تفاقم حدّة النّزاع… وتأمّلات لاهوتيّة أخرى

بقلم مرتان عقَاد

فيما أنا ذاهب إلى العمل صباحًا، أتطلّع دائمًا إلى أخبار اليوم المستجّدة عبر الراديو: في بداية السّاعة… أو ربّما 15 دقيقة بعد السّاعة … أو قبل السّاعة بـ 15 دقيقة. أتصفّح المحطّات التي حفظتها مسبقًا على جهازي، والتي تعكس كلّ منها وجهة نظر مختلفة. وبين موجزات الأخبار، أستمع إلى البرامج الحواريّة الصباحيّة لأتفحّص الحالة المزاجيّة للمجتمع حول أهم موضوعات اليوم أو الأسبوع.

منذ فترة، بدأت أشعر بالقلق إزاء تدهور جودة التّقارير الإخباريّة والخطاب العام، والذي تفاقم بسبب ادعاء مقدّمي البرامج والمضيفين أنّهم ينقلون ببساطة أسئلة النّاس وهمومهم، “بموضوعيّة” ودون أي مصلحة خاصّة. غير أنّه ينبغي للمرء أن يجادل بأنّ هذا الحياد المزعوم يمثّل في حدّ ذاته مشكلة لأنّه يُظهر جهل سلطة تأثير وسائل الإعلام ومسؤوليتها.

في بعض الأحيان، تقدّم البرامج الحواريّة الصباحيّة ببساطة للمستمعين والمتصلين الفرصة للتنفيس عن معاناتهم الاقتصاديّة أو ازدرائهم للنخبة السياسيّة الحاكمة. لكن في أوقات أخرى، تميل المحادثات على نحوٍ خطير نحو خطاب الكراهيّة المتحيّز، ما يجعلني ألهث قلقًا أمام احتمالات العنف المرعبة التي قد تنجم عن المشاعر الفظّة التي يعبّر عنها المستمعون والتي يشعلها المضيف إلى حدّ كبير.

في لبنان، المواضيع السّاخنة التي يتم تناولها بإسهابٍ هذه الأيام – اعتمادًا على أيّ جهة من السّردية يستمع إليها المرء – هي اللاجئين السّوريين، و”الثنائي” حزب الله وحركة أمل والمجتمع الشّيعي التابع لهما، ومؤخرًا قضية مجتمع الميم عين.

عندما كنت أفكّر في هذا الواقع الجديد لوسائل إعلامنا اللبنانيّة، عثرت على أداة تعليميّة طوّرها المركز اللبناني للتربيّة المدنيّة (LCCE) وبرعاية منتدى ZFD، وهي منظّمة مجتمع مدني تعمل على تعزيز السلم المدني. الدليل متاح مجانًا باللغة الإنجليزيّة على موقع منتدى ZFD، وقد تمّ تطويره لأوّل مرّة في عام 2013 ويحمل عنوان “ذاكرة الحرب”. يتناول النشاط 9 (من 12) مسألة مسؤوليّة وسائل الإعلام في تقديم التّقارير.

يبدأ الفصل بتحديد 5 أنواع من وسائل الإعلام، تتراوح بين تلك التي “تعزّز السّلام” إلى تلك التي “تعزّز التّعصب”، وتتضمن 3 أنواع أخرى التي تسعى إلى تنمية “أرضية مشتركة”، و”الإعلام غير المنحاز”، و”الإعلام المتحيّز”. ” يمكن للمرء أن يجادل بأنّ عددًا كبيرًا من وسائل الإعلام متحيّزة بصورة عامة، وتعمل بمثابة أبواق لوجهات النّظر المتعارضة بشأن القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة. غير أنّني، قلق إزاء عدد الأصوات التي يتّم تقديمها للشّعب اللبناني هذه الأيّام، والتي يبدو أنّها تذهب في الواقع إلى أبعد من ذلك، إلى حدّ تعزيز التّعصب؛ وكلّ ذلك باسم حريّة التّعبير والنّقل الموضوعي لآراء النّاس طبعًا.

بالنسبة لأولئك الذين بيننا، لاهوتيّين، وأكاديميّين، وقادة الكنيسة، الذين عادة ما يكون لديهم منصّة، ومنبر، وغالبًا ما يكون لديهم جمهور سريع التّأثر، يجب علينا أن نأخذ بالحسبان حقيقة أنّ معظم خطاباتنا وكتاباتنا لها تأثير، وبعضها تأثيرها كبير. أعتقد أنّه من المفيد، بالتّالي، أن نتذكّر بعض المعايير الأخلاقيّة لقطاع الإعلام، لأنّها قد تنطبق علينا، وربمّا أكثر من الصحفيّين ومقدّمي البرامج، نظرًا للتأثير الكبير التي تتمتع بها الروحانيّات والأبعاد الدينية  في مهنتنا عامّةً على الجمهور. سأتأمل بإيجاز في الانعكاسات المترتّبة على الكنسية لـ “قواعد السلوك” و”الواجبات الأخلاقيّة” الإحدى عشر المدرجة في دليل “ذاكرة الحرب”.

  1. المسؤوليّة. التّقارير المسؤولة، على غرار اللّاهوت المسؤول، هي تقارير ملتزمة بالحقيقة. إنّ إحساسنا بالمسؤولية تجاه جمهورنا هو مقياس احترافيتنا. كقادة، يجب علينا أن نبقى مدركين أنّنا لا نخدم أنفسنا، بل نخدم الله والصّالح العام.
  2. التّوازن والإنصاف. إنّ التزام الإعلامي بالحقيقة يجب أن يولّد لديهم الرّغبة في الحفاظ على الصدق في تقاريرهم التي تفضي إلى الحوار. وهكذا أيضًا في معالجتنا الكتابيّة واللاهوتيّة للقضايا الصّعبة. على الرّغم من أنّنا قد نكون متمسكين بشدّة برأينا، إلّا أنّ التزامنا بالحقيقة يتطلّب منّا تقديم وجهات نظر مختلفة حول قضيّة ما بصورة عادلة، بحيث يتلقّى جمهورنا معلومات متوازنة على نحوٍ كافٍ لكي يتمكّنوا بعد ذلك من تقييمها على نحوٍ ناضج ومدروس.
  3. الاعتماد على منهجيّات تحليل النزاع. إنّ كلّ ما نفعله ونقوله يجب أن يعكس التزامنا الدائم باستكشاف الحلول السلميّة للخلافات العميقة في كثير من الأحيان حول القضايا، سواء كانت سياسيّة أو اجتماعيّة أو لاهوتيّة. نريد استكشاف الخلفيّات المعقدّة شخصيًّا واجتماعيًّا للقضايا الصّعبة، وتسليط الضّوء على القواسم المشتركة والخلافات، والسّعي إلى حلول تحافظ قدر الإمكان على الوحدة الجماعيّة والصّالح العام.
  4. تجنّب الدعاية والتّحريض. سيسعى الأشخاص ذوو المصالح الأنانيّة والنفوذ السّياسي دائمًا إلى التّلاعب بالخطاب العام، سواء من خلال وسائل الإعلام في المجتمع الأوسع أو من خلال مشكّلي الرأي والمؤثرين في المجتمع الإيماني. يمكن أن ينطبق هذا خاصّةً على من منّا يعتمدون على التّمويل الخارجي لوظائفهم ومعيشتهم. ولابدّ من البّحث عن ضمانات لحرية التّعبير المسؤولة، على غرار ما طوّرته الأكاديميّة فيما يعرف بالمنصب “الثابت”. بالنسبة للقادة في المجتمع الإيماني، يجب أن يكون هناك أيضًا استعداد لمقاومة الضغوط التّلاعبية حتّى لو كان ذلك مقابل تكلفة شخصيّة كبيرة.
  5. وسائل التّعامل مع العنف. غالبًا ما يكون العنف والأذى الجسدي ثمرة طويلة الأمد للإساءة اللفظيّة والعنف اللفظي المطوّل. على سبيل المثال، تصاعدت وتيرة التّرويج للخوف من اللاجئين السّوريين في لبنان بمعدلٍ ينذر بالخطر في الخطاب الإعلامي. ونتيجة لذلك، حتّى في الكنيسة، ازدادت صعوبة تنميّة القادة لشعور التّعاطف تجاه المجتمع السّوري، وذلك وفقًا لسردية الشكوى الشّعبيّة للظلم. لقد أمسى الأمر الآن أكثر إلحاحًا من أيّ وقت مضى لإعطاء صوت لأولئك الذين يتعرّضون للانتهاكات، من خلال تسليط الضّوء على التكلفة التي يتكبّدها الأفراد جرّاء العنف اللفظي والتّحيزات.
  6. التسيّيق. كثرما تدعي الشّخصيات الإعلاميّة الدّقة والموضوعيّة من خلال نشر أو تكرار ما يُسمّى بالمعلومات “الواقعيّة”. وباعتبارنا قادة في المجتمع الإيماني، فإنّنا غالبًا ما نميل أيضًا إلى تعزيز موقفنا، كما هو الحال فيما يتعلّق بقضية مجتمع الميم عين، وذلك ببساطة عن طريق الادعاء بأنّ “هذا ما يقوله الكتاب المقدّس”. غير أنّ مواقفنا وسلوكياتنا، عندما تستند إلى “الحقائق البسيطة” المزعومة، ستكون معيبة إذا لم نضع القضايا في سياقاتها النّفسية الاجتماعية والشّخصية المناسبة.
  7. فصل الرأي عن الحقيقة. بالنسبة لمراسل وسائل الإعلام، فإن التّمييز بين الرأي والحقيقة، وتسليط الضوء على نحو لا لبس فيه عندما تكون المعلومات مبنيّة على ادعاءات أو شائعات أو افتراضات، أمر بالغ الأهميّة لممارسة مهنيّة جيّدة. في الكنيسة، القيادة المتواضعة يجب أن تمنعنا دائمًا من ذكر موقفنا على أنّه “حقيقة”. إذا كنّا نؤمن أنّ الله وحده يملك الحقيقة المطلقة، فحتى قناعاتنا المستندة إلى الكتاب المقدّس يجب أن تظل آراءً خاضعة للتفسير التّصحيحي. أودّ أن أجرؤ بكلّ تواضع على تبنّي الرأي القائل بأنّه لمن الغطرسة والتّلاعب تقديم أيّ من قناعاتنا اللاهوتيّة على أنّها حقيقة مطلقة.
  8. احترام الخصوصيّة. المبدأ الإعلامي هنا هو ضرورة التّعامل مع قضايا الحياة الخاصّة بأكبر قدر ممكن من الدّقة والعناية. يجب حماية حياة النّاس الخاصّة من الاستعراض الإعلامي المثير. في مجال قيادة الكنيسة، فإنّ احترام صراعات النّاس الشخصيّة ومسيرة حياتهم يقع تحت مظلّة الرّعاية الرّاعويّة. إنّ اهتمامنا بجروح النّاس يجب أن يتفوّق دائمًا على ميلنا إلى إصدار الأحكام ورغبتنا في الفوز البطولي بالجدل.
  1. . تجنب التّمييز والتّعميم. في التّقارير الصحفيّة، كما هو الحال في نشر حقائق الإنجيل، قد تخدم القوالب النمطيّة السلبيّة طموحنا في الدفاع عن قضيّة ما في مواجهة قضيّة أخرى. غير أنّ كما يقول دليل “ذاكرة الحرب”، “تشير الصّور النمطيّة السلبيّة إلى أنّ كلّ من ينتمي إلى الجانب الآخر يتصرّف بالطّريقة نفسها ولن يتغير أبدًا”. ولكن إذا ادعينا الالتزام بحقيقة أسمى، فإنّ مصلحتنا يجب أن تكون دائمًا في المقام الأوّل وقبل كلّ شيء لخدمة الأشخاص، حتّى فوق المواقف الأيديولوجيّة. يجب أن نؤمن بإمكانيّة التّغيير لكلّ شخص.
  2. الدقّة في استخدام اللغة والمصطلحات. يمكن أن يساهم وضع العلامات في إعادة إشعال النّزاع أو إدامته من خلال ظهوره على أنّه عدواني. يجب وصف الموقف أو الوضع أو نمط الحياة بدقّة وبدون مبالغة. من الأفضل تعلّم اللغة والمصطلحات المستخدمة لوصف مجموعة ما أو قضيّة ما من المجموعة نفسها ومن الطريقة التي يشيرون بها إلى أنفسهم.
  3. الدّقة في استخدام المصادر. تتطلّب أخلاقيّات الإعلام الحرص في استخدام المصادر لتجنب إلحاق الضرّر بها وفقدان ثقتها. وعلى المنوال نفسه، يجب على اللاهوتيّين والواعظين وغيرهم من أصحاب التّأثير الديني أن يمارسوا عناية كبيرة في استخدام مصدرهم الرّئيس، وهو الكتاب المقدّس. نحن نسيء استخدام مصدرنا عندما لا نتعامل معه بتواضع وانفتاح. وكما يتحمّل المراسلون “المسؤوليّة الأخلاقيّة لحماية مصادرهم”، كذلك يتحمّل قادة الإيمان مسؤوليّة التّعامل مع الكتاب المقدّس باحترام من خلال تناول تفسيره دون أيّ نزعة إلى التلاعب بالحقّ.

كقادة فكر في الكنيسة، لدينا مسؤوليّة هائلة تجاه مجتمعاتنا الإيمانيّة والمجتمع ككلّ. يمكننا أن نصبح مروّجين للتّعصب بقدر ما نحن مدعوّون إلى أن نكون مروّجين للسلام. سواء كان لدينا منصّة في مجال القضايا الاجتماعيّة، أو خدمات الرحمة، أو التّعليم اللّاهوتي، أو الوعظ، أو الشأن العام، فإنّنا مدعوون لأن نكون صانعي سلام ومصالحين، ونسعى دائمًا للحفاظ على الوحدة في الكنيسة والصّالح العام في العالم.

 

مارتن هو أستاذ مساعد في الدراسات الإسلاميّة في كليّة اللاهوت المعمدانيّة وهو مؤسّس ومدير مجموعة بحث تحمل اسم شركاء في الأبحاث الإجرائيّة.

اترك رد