مستويات السلام: أبرز ما ورد في مؤتمر الشرق الأوسط لعام 2023 في كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة
أكتوبر 12, 2023
التوصّل إلى جذور صنع السّلام: وجهة نظر من المبادرات والمواجهة
نوفمبر 23, 2023

مأزق المواجهة

بقلم باسم ملكي

بعد مدوّنة شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل التي كتبتها شيري إلينغتون بعنوان “مستويات السلام” حول مؤتمر الشرق الأوسط لعام 2023، أريد تسليط الضّوء على قضية المواجهة (التي أُثيرت خلال المؤتمر نفسه وسيتم تناولها مرّة أخرى خلال مؤتمر الشرق الأوسط لعام 2024) كخطوة مهمّة في صنع السلام والتي لا يمكننا إهمالها من خلال تجنب الصّراعات فقط. أعرب المشاركون في مؤتمر الشرق الأوسط عن كيف أنّ كنائسنا دمرتها النزاعات التي تُركت دون حلّ وخُبئَت تحت البساط.

في كتابه “راعي صنع السلام” The Peacemaking Pasto، أدلى ألفريد بوارييه بتصريح قوي:

تفتقر الكنيسة المسيحيّة إلى المصداقيّة في شهادتها للمسيح عندما تظهر للعالم عجزها عن حلّ الصّراعات. كيف يمكننا أن ندّعي أنّ الإنجيل هو قوّة الله لخلاص الجميع بينما نخفق في كثير من الأحيان في العيش بقوته الخلاصيّة، ما يثبت أنّنا غير قادرون على الاتفاق؟ (بوارييه 2006، 15)

دور المواجهة داخل الكنيسة

في معظم الثقافات العربيّة، أو “ثقافات الشرف والعار”، لا يتم تحبيذ المواجهة، ويميل الأفراد أكثر إلى تبنّي موقف غير تصادمي وغير مباشر. وربّما السبب هو الخوف من فقدان ماء الوجه والشرف ما قد يؤدّي إلى فضح الآخر أو الشخص المواجه نفسه. نحن نفضّل أن نحاول حماية العلاقة من خلال عدم المواجهة المباشرة، آملين ألا يزداد الطين بلّة. إنّ العلاقات تزداد سوءًا، لا محالة، عندما يغيب لالتواصل حول المشكلة أو الأذى أو الظلم النّاجم، ما يؤدّي إلى تصعيد الصّراع. تصف إلين فغالي (1997) المجاملة وحفظ ماء الوجه بأنّهما أكثر أهميّة مما تعتبره الثقافات الأخرى صدقًا.

سبب آخر محتمل لتجنّب المواجهة هو فارق القوّة الكبير في المجتمع: مهابة واحترام القادة وكبار السن والمعلمين والرؤساء وما إلى ذلك، ما قد يجعل الآخرين خائفين من التّحدث إليهم.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ سبب عدم المواجهة هو الخوف من الرفض (من قبل الشّخص، أو الأهم من ذلك، من قبل المجموعة التي يمثّلها الشّخص، كوننا مجتمعًا جماعيًا). شارك البعض في أنّهم خائفون من مشاعرهم القويّة التي قد تجعل القضايا أو العلاقات أكثر تعقيدًا. إنّهم يفضلون الصمت وكسب استحسان الآخر، بدلاً من المواجهة وفقدان احترام الآخر لهم. بمجرّد أن يغضب شخص ما ويتعرّض كبرياؤه أو كرامته للتهديد، فقد يصبح عنيدًا ويمكن أن ينفصل عن المحادثة. علاوة على ذلك، نظرًا لأنّ العواطف دائمًا ما تكون ذات أهميّة في حالات الصّراع، فعندما نواجهها، غالبًا ما تجلب الإحباط والاستنتاجات المسبقة والاتهامات. إنّ كيفيّة تبلور المواجهة عادة ما تُترك للحظة حدوثها.

لكنّ المواجهة ليس من الضّروري أن تكون سببًا لللوم والاتهامات، أو علامة ضعف. أشار بعض المشاركين في مؤتمر الشرق الأوسط إلى أنّ المواجهة يمكن أن تكسب الطرف الآخر كما في متّى 18: 15 “فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ”. إنّ حبّنا للآخر هو الذي يدفعنا إلى مواجهته. الصّمت قد يؤذي الآخر أكثر، فيتركه أعمى ويعيش في خطئه، بدلاً من التّحدث من أجل بنيانه.

طُرحت أسئلة خلال المؤتمر مثل: في أيّ الحالات تكون المواجهة واجبة، ومتى لا تكون ضروريّة؟ كيف نعالج القضايا، وبأيّ موقف؟ ما هي المعايير التي تتضمنها المواجهة؟ هل المواجهة هي الكلمة الأفضل لتمثيل هذه الخطوة من حلّ النزاع؟

يُطلب منّا كتابيًّا أن “نذهب” ونتصالح. يقول يسوع هذا في موضعين في متّى. أولاً، عندما نكون المخطئين، في متّى 5: 23-24 “فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ.” ثانيًا، عندما نشعر بالإهانة، في متّى 18: 15، “وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ.” في كلتا الحالتين، يطلب منّا يسوع أن نذهب ونأخذ زمام المبادرة مع الآخر لحل النّزاع. يسمح لنا الكتاب المقدّس هنا أيضًا أن نفهم أنّ المواجهة هي تسليط الضوء على الخطأ (سواء كان موقفًا أو قولًا أو فعلًا) حتّى يدرك الآخر النقاط التي لا يراها في شخصه التي يمكن أن تلحق الضّرر بالآخرين دون أن يعلم، أو قد يتم تأنيبهم لتعمّدهم ارتكاب الخطأ.

وبينما نفعل ذلك، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ هذا الأمر يتّم بإرشاد الرّوح القدس وليس من خلال تمييزنا الشّخصي (2 تيموثاوس 2: 24-26؛ غلاطية 6: 1-2). يُطلب منّا أيضًا في الكتاب المقدس أن نفحص أنفسنا، ودوافعنا، ومواقفنا، ومساهمتنا في النزاع من خلال القيام بما طلب منّا يسوع أن نفعله، “وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ. يَا مُرَائِي أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!” (متى 7: 3-5).

الآن كمسيحيين ناضجين، نحتاج أن نكون من النوع الذي يدعو الآخرين الذين يمكنهم محاكاة حياتنا والسّماح للروح القدس بتشكيلنا من خلال مجتمع أتباع المسيح. بالنسبة لكلّ مسيحي يستجمع الشّجاعة للذهاب والمواجهة بحساسيّة، يجب أن يكون هناك مسيحي ناضج بدرجة كافية على الجانب الآخر مستعد لاستقبال ذلك الشّخص.

العديد من المطبّات والمخاوف التي عبّر عنها المشاركون في مؤتمر الشرق الأوسط جاءت من داخل ثقافة الكنيسة: كيف يمكننا مواجهة قادة كنيستنا عندما يكونون على خطأ، أو عندما يكون هناك ظلم داخل الكنيسة أو سوء إدارة للسّلطة؟ كيف نتعامل مع الانشقاقات في الكنيسة؟ إذا واجهنا، يمكن للقادة أن يعزلونا بسهولة. قد نتعيّر!

عرف يسوع متى يواجه وكيف يواجه. اقترح المشاركون في مؤتمر الشرق الأوسط أنّنا بحاجة إلى تعلّم أسلوب يسوع وحكمته في ذلك. لم يساوم يسوع على الحق، حتّى مع الظالمين (سواء كانوا رجالات دين أو سياسة). كما واجه يسوع تلاميذه عدّة مرّات لتوعيتهم لعواقب تفكيرهم وقراراتهم (على سبيل المثال، مرقس 35:10-45).

دور المواجهة في سياقنا الشرق الأوسطي

يمكن للكنيسة أحيانًا أن تنغمس في معاناتها لدرجة أنّها قد تفقد صوتها النبوي أمام العالم. يهدف هذا الصوت إلى إعلان إنجيل السلام وتسليط الضوء بصورة مفيدة على الأفعال والقرارات الخاطئة التي تحدث، كلّ ذلك في محاولة لتحقيق الفداء لأحداثنا الراهنة.

إنّ الوضع اليوم في غزة/إسرائيل، بما في ذلك لبنان، يشكّل سببًا إضافيًا للانغماس في صنع السّلام وبناء السّلام وحفظ السّلام على كافة المستويات: من السّلام الداخلي، إلى السّلام بين الأفراد، إلى السّلام بين المجموعات، والسّلام الوطني. وربّما أضيف السّلام العالمي.

حينما مررت على كتابات والتر بروجمان ونيكولاس ولترستورف، تشجّعت بالقراءة عن الرّؤية النبويّة لشالوم ــ السّلام في المعنى العربي ــ كبديل جذري للسرديّات السّائدة عن السّلطة، والقمع، والاستغلال. وكلاهما يسلّطان الضّوء على أهميّة الدّعوة النبويّة لتحدّي تلك الأنظمة وتصوّر مجتمع يتسم بالسلام، وهو أمر تشتد الحاجة إليه في مجتمعاتنا في الشّرق الأوسط. ويقول بروجمان أنّ رسل الكتاب المقدّس، في مناصرتهم العدالة الاجتماعيّة، يجسدون قلب الإيمان العبري والمسيحي. واليوم، هذه الدعوة للمناصرة تقع في أيدي الكنيسة.

من سيرفع الصّوت ضد الظلم والعنف والمعاناة؟ كأتباع للمسيح، فإنّنا لن نقف متفرّجين في صمت على عذاب إخواننا من البشر. أنا لا أقترح أن ننحاز إلى أيّ طرف في أيّ صراع، ولكن أن نقول الحقيقة بمحبّة، ونواجه الظلم بإصرار، ونكسر جدران العداوة بالصلاة، ونعمل من أجل السّلام والمصالحة. وهذا يتطلّب التزامًا مستمرًا وحوارًا وعملًا جماعيًّا، يتّم بروح الصّلاة والخضوع للروح القدس. لأنّه يجب علينا أن نستجيب للصّراع في توقيت الله، وبموقف الله وهدف الله. علينا أن نطلب حكمته السماويّة التي تجلب الصلاح والسّلام (يعقوب 3: 17).

وأنا أؤمن بكلمات بولس: ” وَإِلَهُ السَّلاَمِ سَيَسْحَقُ الشَّيْطَانَ تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ سَرِيعاً.” (رومية 16: 20). على الرّغم من أن بعض اللاهوتيّين يقترحون أنّ لهذه الآية هي مفهوم أخروي وليس مفهومًا اجتماعيًّا وسياسيًّا، إلّا أنني أعتقد أنّ الشّيطان يُسحق يوميًّا تحت أقدام القديسين، حيث أنّ بولس في الآية التي سبقتها يشير إلى أن طاعتنا للمسيح – وأن نكون حكيمين للخير وبسطاء للشّر – تستحق أن يفرح بها.

لم يأتِ يسوع ليحمل سلامًا خاطئًا أو زائفًا، يسود فيه الهدوء الخارجي بينما تشتعل العواصف في الداخل، بل على العكس: يأتي يسوع ليساعدنا في هزّ الواقع وكشف الباطل وعبادة الأوثان من حصن السلام. السلام والمصالحة بحسب يسوع هما سلاحان، سلاح يدمّر مملكة الشيطان القائمة على الافتراء والعداوة والانفصال والخطيئة والعنف والأكاذيب التي تدمر البشريّة.

عندما يقول يسوع: “سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ….” (يوحنا 14: 27)، لم يوضح الفرق بين سلام العالم وسلام يسوع، لكن يسوع أتبعه بالكلمات، “قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ” (يوحنا 16: 33).

سيتم تناول موضوع المواجهة في مؤتمر الشرق الأوسط المقبل، الذي سيُعقد في الفترة من 23 إلى 25 سبتمبر/أيلول 2024. وفي الأشهر التي تسبق ذلك، ستنفّذ كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة مبادرات كتابيّة وسياقيّة مع شركاء مختلفين في جميع أنحاء العالم العربي للاختبار والتّعلم من إخفاقاتنا ونجاحاتتا حول طرق فدائيّة أكثر للمواجهة في سياق منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، حتّى نتمكن من عكس صفات الله وتمجيد اسمه.

 

باسم ملكي هو مدير قسم التدريب غير الرّسمي وصنع السّلام في كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة.

 

Feghali, Ellen. 1997. “Arab Cultural Communication Patterns.” International Journal of Intercultural Relations 21 (3): 345–378.

Poirier, Alfred J. 2006. The Peacemaking Pastor: A Biblical Guide to Resolving Church Conflict. Grand Rapids, MI: Baker Books.

اترك رد