بين تغيير الإرادة وإرادة التغيير: دعوة لتحقيق وكالتنا

بقلم رافد البيطار
الفائز بجائزة "غسّان خلف" السنويّة لأفضل مقال وذلك لعام ٢٠٢٠
التّغيير كنمط حياة هو سمة مميّزة للكائن الحيّ، ودليل واضح على وجود حياة. بالإضافة إلى ذلك فإنّ إمكانية التّغيير تتيح المجال للتطوّر والنمو، وتقدّم لنا الفرصة لنكون أفضل ممّا كنّا آنفًا. قد يكون التّغيير نتيجة عملٍ مقصود، وضمن ظروف طبيعية وقد نختار وقته وكيفيته وطريقته. وهذا يُعتبر تغييرًا إراديًا، نخطّط له مسبقًا ونقوم بتقييم فرص نجاحه أو فشله. غير أنّه بالمقابل قد يُفرض علينا التّغيير لسببٍ ما أو نتيجة مجموعة من العوامل، فنكون مُجبَرين على اتّخاذ خطواتٍ نحو التّغيير القسري والمستعجل، الّذي قد يكون معها إسعافيًّا أو منقذًا لحياتنا.
هذا النوع من التّغيير القسري هو ما يحدث مع أكثرنا اليوم نتيجة الظروف القاهرة التي يمرّ بها العالم عامّة ومنطقتنا العربية الواهنة بجراحها خاصّة. فالظروف فرضت علينا أن نعمل بصورة مختلفة، ونفكّر بأساليب مختلفة، ونمارس حياتنا اليوميّة لا كما اعتدنا في سابق عهدنا، ولا كما في ماضينا القريب.
قد نجلس لنتأمّل في الماضي القريب الّذي لا زالت رائحته تعبق في أنفاسنا، ومشاعرنا نحوه مازالت جيّاشة، وربّما مازلنا نتغنّى به، ونترحّم عليه. نذكر كيف كنّا نعيش، وكيف كنّا نمارس أنشطتنا، وكيف كنّا نسافر متى شئنا، ونختار ما نريد من وجهات السفر أو الأشخاص الذين نتعامل معهم. غير أنّ واقع الأمر اليوم ونتيجة جائحة كورونا المستجدّة التي اجتاحت مجتمعاتنا، مع الكثير من المتغيّرات الأخرى التي لا مجال للحديث عنها هنا، وجدنا أنفسنا نسعى لخلق أنماط مختلفة من التفكير والسلوكيات والتعاملات. اكتشفنا بأنّ ما حصرنا به أنفسنا من أنماط ليس هو الأفضل وليس هو الأنجح في عمليات التواصل، والتعلّم، والسلوك، والإنتاج في العالم.
كنّا نعيش بروتين ومنطق ثابت في الحياة، ونحن راضين نوعًا ما عن أنفسنا ومتصالحين مع ذواتنا. بيد أنّنا عندما وضعتنا الظروف المتغيّرة على المحكّ، وجدنا أنفسنا نحكّ عقولنا وأفكارنا، نعدّل في سلوكنا ومبادئنا وحتّى قيمنا وأهدافنا، ولكن ليس بالتخلّي عنها بل بجعلها أكثر ملائمة لعصر كورونا المستجد وما فرضه علينا من معايير جديدة للتعامل بين البشر، والسلوك في المجتمع ومع الخليقة كلّها.
ربما تركت هذه الجائحة "كوفيد 19" الكثير من الآثار السلبية في حياة الفرد والجماعة، ولم تترك مجتمعًا ولم تترك بصماتها فيه من الألم والحزن. عشرات آلاف البشر فقدوا حياتهم، ملايين الإصابات حول العالم، مئات آلاف البشر فقدوا عملهم، ارتفعت نسبة البطالة والفقر في العالم، ووُضِعت الكثير من الدول بعزلة شبه كاملة. حُرم الكثير من النّاس أن يفرحوا بنجاحهم بعد جهد دام سنوات، قطعت أوصال العالم وباتت الفوضى في الكثير من البلاد شعارًا يرفعه الشعب البائس والمحبط بوجه حكوماتهم وحكّامهم. وأضحى الطب والعلم عاجزين عن تقديم حلول. وحده التخبّط، والخطوات المتعثّرة كانت شعار هذه المرحلة الصعبة.
ومع مرور الأيّام بدأ العالم يشعر بأنّ الحياة لم ولن تتوقّف هنا. فالحياة أثمن من أن نجعل وباء كورونا يحرمنا أن نتمتّع بها. الكنيسة والمؤمنون شعروا بهذا التحدّي أيضًا. فمركز الخدمة الروحيّة لم يعد مبنى الكنيسة والقاعة التي تتسع لعشرات أو مئات الأشخاص، بل صارت منصّات التواصل الاجتماعي هي البديل، وخلق فرص التواصل مع الجميع بالوقت نفسه بات أمرًا متاحًا وملحًّا. صار من الواجب احترام ما وضعته الدولة من القوانين لحماية مواطنيها. فلم يعد من المهمّ أن أصافح أخي أو أتبادل معه القبل كدليل على المودّة وصدق المشاعر، صرنا نصلّي أكثر وباتت لقاءاتنا أطول عبر وسائل التواصل ومنصّاته. صار اجتماعنا حول كلمة الرّب فرصة لنتأمل بالكلمة، ونتعلّم منها ونسمح لها أن تشكّلنا، أكثر من تأمّلنا ببعضنا، وكيف يبدو فلان، وكيف تصرّف فلان. صار اهتمامنا منصبًّا أكثر على كيف يمكن أن نخدم من هم بحاجة ماسّة للمساعدة اليوم، وكيف نتجاوز هذه الأزمة بأقلّ خسائر ممكنة.
شَكلُ العلاقات تغيّر، شَكلُ العبادة تغيّر، نمط الحياة اليومية تغيّر، ولكن هل حقّقنا معادلة التغيير الصحيحة التي يريدها منّا الله وكما قدّمها لنا في الكتاب المقدّس؟ فكلمة الرّب تقول في رسالة بولس الرسول لأهل رومية 12: 2، "وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ." نعم نحن مدعوون اليوم لممارسة التغيير، وعيش التغيير ولكن ليس كما يمارسه العالم. فقد يهتمّ العالم بتغيير نمط العلاقات وشكل العلاقات ولكن ماذا عن جوهر العلاقة؟ الله يدعونا في كلّ وقت لنعيش التجديد ولكن ليس على مستوى الشكل بل على مستويات أعمق وأكثر تأكيدًا على نضوج علاقتنا معه. هو يدعونا لتجديد أذهاننا، أي طريقة تفكيرنا وتعاطينا مع المسائل الحسّاسة في حياتنا ومع مجتمعاتنا. يدعونا كي نعيش التّغيير بما يتوافق مع إرادة الله الصالحة لنا والتي تجعل منّا وكلاء على بيت الله وأهل بيته. فليس ما يصيبنا من وباء أو كارثة هو لأنّ الله يريد أن ينتقم منّا أو يجازينا على ما نرتكبه من أخطاء ونمارسه من ممارسات غير صالحة، كما يظنّ ويعتقد الكثيرون. بل هو فرصة للتغيير والتجديد في الحياة، هي فرصة لخلق ظروف أفضل وممارسة نشاطاتنا وأعمالنا على نحوٍ مختلف ولكن أكثر تأثيرًا وإيجابية من ذي قبل. الله هدم برج بابل، جلب الطوفان، ولكن في الحالتين وغيرهما كان يقدّم فرصة للبشرية للبدء من جديد وبصورة مختلفة. يدعونا الله من خلال ما نمرّ به من ضيقات وتجارب وظروف صعبة لنختبر إرادته الصالحة في حياتنا، على مستوى الأفراد والجماعات.
علينا كمؤمنين أن ندرك بأنّ التغيير الحقيقي هو قرار حرّ، نابع من إرادة صالحة، ومن قناعة تامّة بأنّ كلّ ما يحدث معنا هو لخيرنا، وهذا ما تعزّينا به كلمة الرب حين يقول لنا في رسالة بولس الرسول لأهل رومية 8: 28، "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ." فما نمرّ به اليوم نتيجة هذا الوباء الخطير، وما نعيشه من واقع مختلف ومغاير لما اعتدنا عليه، يُعتبر فرصة للتغير بالنسبة لنا، كي نسلك بطريقة نكون أقرب لله من خلال قربنا من خليقته، والعناية بها، والاهتمام بشؤونها، كما أوكلنا عليها يوم جعل منّا شركاء له في العناية والاهتمام بها منذ التكوين.
نعم ثمّة ثمن قد يكون باهظًا في بعض الأحيان نتيجة قرار عمل تغيير في حياتنا، ولكن تجديد ذهنية حياتنا الروحية لتتمحور حول الله، ولنكون نحن أدواته ووكلائه على الأرض، لن يكون ثمنه يضاهي ما ينتظرنا نتيجة عيش هذا التغيير في حياتنا اليوم. نحن نكتشف يومًا بعد يوم دور الإنسان في تخريب نظام الكون الّذي أسّسه الله وأرسى قواعده منذ التكوين. وندرك يومًا بعد يوم كيف أنّ كبرياءنا وجشعنا دفعانا لنمارس سيادة سلطوية غير خادمة للخليقة ولأخينا الإنسان. وندرك بأنّ ما يحيط بنا من كوارث وأمراض ما هو إلّا نتيجة وكالتنا غير الصالحة فيما اتمننا الله عليه. فإن كانت ردّة فعل الطبيعة الانتقام، أو ردّة فعل الإنسان تجاه الإنسان هي الانتقام، فهذا ليس أصل الأشياء بل هو ما وصلنا إليه نتيجة سقوطنا.
لذلك نحن مدعوون اليوم لنعيش حقيقة التغيير بالفكر والقلب والسلوك كفعل إرادي، وليس كنمط فُرض علينا. فللرغبة بالتغيير إرادة حرّة نابعة من دورنا الذي أوكلنا به الخالق. نحن مدعوون لنمارس التغيير، ليس من منطلق واقع جديد فَرضَ نفسه علينا، بل من منطلق وكالتنا الأمينة لله، مع الله ومع أخينا الإنسان وشريكنا في هذا الكون الواسع. نحن مدعوون اليوم أن نجعل من هذه الجائحة، وغيرها من الكوارث والتحدّيات، فرصة لإعادة النظر والتفكير بدورنا في الحفاظ على عالمنا من أن يسقط بيد الشرير، فيزول ومعه نحن، بل لنعمل معًا بمحبّة ونحن ننتظر يوم الرّب كمن ينتظر الحياة، لا كمن ينتظر الموت.
24/6/2020
التّغيير كنمط حياة هو سمة مميّزة للكائن الحيّ، ودليل واضح على وجود حياة. بالإضافة إلى ذلك فإنّ إمكانية التّغيير تتيح المجال للتطوّر والنمو، وتقدّم لنا الفرصة لنكون أفضل ممّا كنّا آنفًا. قد يكون التّغيير نتيجة عملٍ مقصود، وضمن ظروف طبيعية وقد نختار وقته وكيفيته وطريقته. وهذا يُعتبر تغييرًا إراديًا، نخطّط له مسبقًا ونقوم بتقييم فرص نجاحه أو فشله. غير أنّه بالمقابل قد يُفرض علينا التّغيير لسببٍ ما أو نتيجة مجموعة من العوامل، فنكون مُجبَرين على اتّخاذ خطواتٍ نحو التّغيير القسري والمستعجل، الّذي قد يكون معها إسعافيًّا أو منقذًا لحياتنا.
هذا النوع من التّغيير القسري هو ما يحدث مع أكثرنا اليوم نتيجة الظروف القاهرة التي يمرّ بها العالم عامّة ومنطقتنا العربية الواهنة بجراحها خاصّة. فالظروف فرضت علينا أن نعمل بصورة مختلفة، ونفكّر بأساليب مختلفة، ونمارس حياتنا اليوميّة لا كما اعتدنا في سابق عهدنا، ولا كما في ماضينا القريب.
قد نجلس لنتأمّل في الماضي القريب الّذي لا زالت رائحته تعبق في أنفاسنا، ومشاعرنا نحوه مازالت جيّاشة، وربّما مازلنا نتغنّى به، ونترحّم عليه. نذكر كيف كنّا نعيش، وكيف كنّا نمارس أنشطتنا، وكيف كنّا نسافر متى شئنا، ونختار ما نريد من وجهات السفر أو الأشخاص الذين نتعامل معهم. غير أنّ واقع الأمر اليوم ونتيجة جائحة كورونا المستجدّة التي اجتاحت مجتمعاتنا، مع الكثير من المتغيّرات الأخرى التي لا مجال للحديث عنها هنا، وجدنا أنفسنا نسعى لخلق أنماط مختلفة من التفكير والسلوكيات والتعاملات. اكتشفنا بأنّ ما حصرنا به أنفسنا من أنماط ليس هو الأفضل وليس هو الأنجح في عمليات التواصل، والتعلّم، والسلوك، والإنتاج في العالم.
كنّا نعيش بروتين ومنطق ثابت في الحياة، ونحن راضين نوعًا ما عن أنفسنا ومتصالحين مع ذواتنا. بيد أنّنا عندما وضعتنا الظروف المتغيّرة على المحكّ، وجدنا أنفسنا نحكّ عقولنا وأفكارنا، نعدّل في سلوكنا ومبادئنا وحتّى قيمنا وأهدافنا، ولكن ليس بالتخلّي عنها بل بجعلها أكثر ملائمة لعصر كورونا المستجد وما فرضه علينا من معايير جديدة للتعامل بين البشر، والسلوك في المجتمع ومع الخليقة كلّها.
ربما تركت هذه الجائحة "كوفيد 19" الكثير من الآثار السلبية في حياة الفرد والجماعة، ولم تترك مجتمعًا ولم تترك بصماتها فيه من الألم والحزن. عشرات آلاف البشر فقدوا حياتهم، ملايين الإصابات حول العالم، مئات آلاف البشر فقدوا عملهم، ارتفعت نسبة البطالة والفقر في العالم، ووُضِعت الكثير من الدول بعزلة شبه كاملة. حُرم الكثير من النّاس أن يفرحوا بنجاحهم بعد جهد دام سنوات، قطعت أوصال العالم وباتت الفوضى في الكثير من البلاد شعارًا يرفعه الشعب البائس والمحبط بوجه حكوماتهم وحكّامهم. وأضحى الطب والعلم عاجزين عن تقديم حلول. وحده التخبّط، والخطوات المتعثّرة كانت شعار هذه المرحلة الصعبة.
ومع مرور الأيّام بدأ العالم يشعر بأنّ الحياة لم ولن تتوقّف هنا. فالحياة أثمن من أن نجعل وباء كورونا يحرمنا أن نتمتّع بها. الكنيسة والمؤمنون شعروا بهذا التحدّي أيضًا. فمركز الخدمة الروحيّة لم يعد مبنى الكنيسة والقاعة التي تتسع لعشرات أو مئات الأشخاص، بل صارت منصّات التواصل الاجتماعي هي البديل، وخلق فرص التواصل مع الجميع بالوقت نفسه بات أمرًا متاحًا وملحًّا. صار من الواجب احترام ما وضعته الدولة من القوانين لحماية مواطنيها. فلم يعد من المهمّ أن أصافح أخي أو أتبادل معه القبل كدليل على المودّة وصدق المشاعر، صرنا نصلّي أكثر وباتت لقاءاتنا أطول عبر وسائل التواصل ومنصّاته. صار اجتماعنا حول كلمة الرّب فرصة لنتأمل بالكلمة، ونتعلّم منها ونسمح لها أن تشكّلنا، أكثر من تأمّلنا ببعضنا، وكيف يبدو فلان، وكيف تصرّف فلان. صار اهتمامنا منصبًّا أكثر على كيف يمكن أن نخدم من هم بحاجة ماسّة للمساعدة اليوم، وكيف نتجاوز هذه الأزمة بأقلّ خسائر ممكنة.
شَكلُ العلاقات تغيّر، شَكلُ العبادة تغيّر، نمط الحياة اليومية تغيّر، ولكن هل حقّقنا معادلة التغيير الصحيحة التي يريدها منّا الله وكما قدّمها لنا في الكتاب المقدّس؟ فكلمة الرّب تقول في رسالة بولس الرسول لأهل رومية 12: 2، "وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ." نعم نحن مدعوون اليوم لممارسة التغيير، وعيش التغيير ولكن ليس كما يمارسه العالم. فقد يهتمّ العالم بتغيير نمط العلاقات وشكل العلاقات ولكن ماذا عن جوهر العلاقة؟ الله يدعونا في كلّ وقت لنعيش التجديد ولكن ليس على مستوى الشكل بل على مستويات أعمق وأكثر تأكيدًا على نضوج علاقتنا معه. هو يدعونا لتجديد أذهاننا، أي طريقة تفكيرنا وتعاطينا مع المسائل الحسّاسة في حياتنا ومع مجتمعاتنا. يدعونا كي نعيش التّغيير بما يتوافق مع إرادة الله الصالحة لنا والتي تجعل منّا وكلاء على بيت الله وأهل بيته. فليس ما يصيبنا من وباء أو كارثة هو لأنّ الله يريد أن ينتقم منّا أو يجازينا على ما نرتكبه من أخطاء ونمارسه من ممارسات غير صالحة، كما يظنّ ويعتقد الكثيرون. بل هو فرصة للتغيير والتجديد في الحياة، هي فرصة لخلق ظروف أفضل وممارسة نشاطاتنا وأعمالنا على نحوٍ مختلف ولكن أكثر تأثيرًا وإيجابية من ذي قبل. الله هدم برج بابل، جلب الطوفان، ولكن في الحالتين وغيرهما كان يقدّم فرصة للبشرية للبدء من جديد وبصورة مختلفة. يدعونا الله من خلال ما نمرّ به من ضيقات وتجارب وظروف صعبة لنختبر إرادته الصالحة في حياتنا، على مستوى الأفراد والجماعات.
علينا كمؤمنين أن ندرك بأنّ التغيير الحقيقي هو قرار حرّ، نابع من إرادة صالحة، ومن قناعة تامّة بأنّ كلّ ما يحدث معنا هو لخيرنا، وهذا ما تعزّينا به كلمة الرب حين يقول لنا في رسالة بولس الرسول لأهل رومية 8: 28، "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ." فما نمرّ به اليوم نتيجة هذا الوباء الخطير، وما نعيشه من واقع مختلف ومغاير لما اعتدنا عليه، يُعتبر فرصة للتغير بالنسبة لنا، كي نسلك بطريقة نكون أقرب لله من خلال قربنا من خليقته، والعناية بها، والاهتمام بشؤونها، كما أوكلنا عليها يوم جعل منّا شركاء له في العناية والاهتمام بها منذ التكوين.
نعم ثمّة ثمن قد يكون باهظًا في بعض الأحيان نتيجة قرار عمل تغيير في حياتنا، ولكن تجديد ذهنية حياتنا الروحية لتتمحور حول الله، ولنكون نحن أدواته ووكلائه على الأرض، لن يكون ثمنه يضاهي ما ينتظرنا نتيجة عيش هذا التغيير في حياتنا اليوم. نحن نكتشف يومًا بعد يوم دور الإنسان في تخريب نظام الكون الّذي أسّسه الله وأرسى قواعده منذ التكوين. وندرك يومًا بعد يوم كيف أنّ كبرياءنا وجشعنا دفعانا لنمارس سيادة سلطوية غير خادمة للخليقة ولأخينا الإنسان. وندرك بأنّ ما يحيط بنا من كوارث وأمراض ما هو إلّا نتيجة وكالتنا غير الصالحة فيما اتمننا الله عليه. فإن كانت ردّة فعل الطبيعة الانتقام، أو ردّة فعل الإنسان تجاه الإنسان هي الانتقام، فهذا ليس أصل الأشياء بل هو ما وصلنا إليه نتيجة سقوطنا.
لذلك نحن مدعوون اليوم لنعيش حقيقة التغيير بالفكر والقلب والسلوك كفعل إرادي، وليس كنمط فُرض علينا. فللرغبة بالتغيير إرادة حرّة نابعة من دورنا الذي أوكلنا به الخالق. نحن مدعوون لنمارس التغيير، ليس من منطلق واقع جديد فَرضَ نفسه علينا، بل من منطلق وكالتنا الأمينة لله، مع الله ومع أخينا الإنسان وشريكنا في هذا الكون الواسع. نحن مدعوون اليوم أن نجعل من هذه الجائحة، وغيرها من الكوارث والتحدّيات، فرصة لإعادة النظر والتفكير بدورنا في الحفاظ على عالمنا من أن يسقط بيد الشرير، فيزول ومعه نحن، بل لنعمل معًا بمحبّة ونحن ننتظر يوم الرّب كمن ينتظر الحياة، لا كمن ينتظر الموت.
24/6/2020