قراءة لصراع التّقاليد والتّطوّر: تأمُّل حول فيلم الباباوان (The Two Popes)
16 يناير 2020
حول الفيلم
طرحتْ شبكة “نتفليكس” (Netflix) فيلم “الباباوان” (The Two Popes) وهو فيلمٌ سينمائيٌّ أشبهُ بسيرةٍ ذاتيّةٍ، أخرجهُ البرازيليّ فرناندو ميريليس وكتبَهُ النيوزلنديّ أنتوني مكارتن. بطولة الفنّان الأمريكيّ الشّهير أنتوني هوبكنز في دور البابا الألمانيّ بنديكتوس السّادس عشر، والّذي تولّى منصِبَ بابا الفاتيكان من 19 أبريل/نيسان 2005 إلى 28 فبراير/شباط 2013، والمُمثّل الإنجليزيّ جوناثان برايس في دور الكاردينال الأرجنتينيّ جورج ماريو بيرجوجليو وهو الّذي خلَفَ البابا بنديكتوس مُباشرةً في 13 مارس/آذار 2013، وهو المعروف باسم البابا فرنسيس الذي اختاره لنفسه. عُرِض الفيلم لأوّل مرّةٍ في مهرجان تيلورايد السِّينمائي في 31 أُغسطس/آب 2019. ويُعَدُّ واحدًا من الأفلام القليلة الّتي ناقشت مُشكلات الكنيسة بشفافيةٍ وثوريّةٍ.
أحداث الفيلم
يعرض الفيلم انتقالَ السُّلطة من البابا بنديكتوس إلى البابا فرنسيس بانتباهٍ دقيقٍ جدًّا للتّفاصيل. فالفيلم كما ترى صحيفة (The New York Times) هو في الحقيقة ثلاثةَ أفلامٍ: قصّةٌ لما وراء كواليس سياسة الفاتيكان، وسيرةٌ ذاتيّةٌ مُصغّرةٌ عن البابا الحاليّ (فرنسيس)، ودراسةٌ دراميّةٌ لعلاقة صداقة وتنافس بين رجُلين، من خلال حوارٍ لاهوتيٍّ فلسفيٍّ. يُصَوَّر فرانسيس في الفيلم على أنّهُ كاردينال يتمتّع بحسّ الإنسان العاديّ، فهو يُحبّ البيتزا وكُرة القدم، ورقص التانجو، ويتحاشى الرّفاهية، ويحمل أمتعتهُ الخاصّة بنفسهِ. يبدو قِلقًا بشأن أخطاء الماضي (اتّهامات بالصّمت حيال مُمارسات النِّظام الدّيكتاتوريّ الأرجنتينيّ في السّبعينيّات). لا شكّ بأنّ الفيلم يقف على الجانب الصّحيح من تاريخ الكنيسة؛ فهو واضح الرؤية بشأن التّجاوزات مثل الاعتداءات الجنسيّة، وتجاه حاجة الكنيسة إلى توسيع نطاق إصلاحاتها. يحكي الفيلم بأنّهُ في عام 2013، يُسافر بيرجوجليو، من شوارع العاصمة الأرجنتينيّة بوينس آيرس إلى روما، ليطلُب من البابا الإذن في التقاعُد. لكن بنديكتوس، الذي يستقبل زائره في المقرّ الصّيفيّ البابويّ في مدينة كاستل غاندلفو بالعاصمة الإيطاليّة، يحمل في جُعبتهِ خُططًا أُخرى، على الرُّغم من أنّها لمْ تكُن واضحة في البداية. فقد كان البابا يواجه الكردينال برفض طلب التقاعد على نحوٍ مُستمر.
يُظهِر الفيلم غضبَ الكردينال بيرجوجليو من الخِطاب المُتشدّد للبابا بشأن القضايا الاجتماعيّة والثّقافيّة، ويحتجّ بأنَّ الكنيسة يجب أن تستخدمَ نفوذها المعنويّ لمُعالجة قضايا مثلَ عدم المُساواة الاقتصاديّة، ويجب أن توقِف سلسلة الفضائِح الجنسيّة التي تحدُث في أروقتها. وفي هذا الحوار الشيّق، يُجسّد البابا السُّلطة والتّقاليد؛ بينما الكردينال يُجسّد ضرورة التّغيير والإصلاح. البابا يرى الإصلاح تنازُلًا مُدمِّرًا أو قبولًا بتسوية مذلّة.
يتجادل الرّجلان ويطرحان خلافاتهما على الطاولة، على مدار أيامٍ، حتّى يستريح بنديكتوس إلى وجهة نظر بيرجوجليو الأكثر حداثةً، ويأتمنهُ على خُطّتِهِ الصّادمة للتّقاعُد، ثُمّ يطرح أخطاءه وإخفاقاته بين يدي رجُلٍ أصبحَ يراهُ خيرَ خلفٍ لهُ. وفي وسط هذه الأجواء، يُعَلِّم بيرجوجليو البابا كيف يرقُص التّانغو؛ ويُشاهِد الاثنان سويًّا إحدى مُباريات كأس العالم، وصولًا إلى نهاية الفيلم.
تأمُّل حول بعض العبارات الواردة في الفيلم
في مشهدٍ داخل الفاتيكان حيثُ ينظُر الآباء إلى فخامة الفنّ المعماريّ للكنيسة، ردّد أحد الآباء في حوارهِ مع الكردينال بيرجوجليو عبارةً مُحزنةً واعترافًا قاسيًا “كنائِسنا جميلة لكنّها فارغة”. وهذه العبارة لا بُدّ أن تؤخَذَ على محمل الجدّ من الكنيسة عامةً، فالكنيسة لمْ تكُن يومًا هي سبب وجودها؛ وإنّما هي وسيلة وليست غاية في حدّ ذاتها. الكنيسة هي أداة الله لامتداد الملكوت من خلال أعضائِها، وليس من خلال المباني العالية الفخمة والمُزركشة. الكنيسة تفقِدُ معناها إذا لم تُحقّق الغاية من وجودها، بأن تكون نورًا ومِلحًا للمُجتمع الخارجيّ كما يقول المسيح في الموعظة على الجبل «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟… أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ.» (متّى 5: 13 -14). فيشكو الأب من قِلّة التواجُد في الكنائس، ولكن السُّؤال الأهمّ وماذا ينتفع العالم بكثرتهم في الكنائس، وبماذا ينتفعون هُم أيضًا؟ هل التواجُد في الكنيسة اليوم من أولويّات المؤمن، أمْ أنّ الكنيسة أصبحت مكانًا لا يُشجّع على الحُضور؟ تُرى ما السّبب في نفور المؤمنين من الكنيسة؟
أمّا في حديث البابا مع الكردينال حول استحقاق تناول القُربان المُقدّس، فالبابا يرى بأنّ التّناول مُكافأةٌ للطّاهرين، ولا يستحِقّ الخُطاة تناولهُ؛ بينما الكردينال يرى بأنّهُ طعامٌ للجائعين، والمائدة مُتاحةٌ للجميع، واستشهد بنصّ الإنجيل على لسانِ المسيح «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ» (مُرقس 2: 17). وهذا ما يؤمن بهِ الكردينال بأنّ من يحتاج للخلاص هُم الخُطاة والمرضى، وليس الأصحّاء والطّاهرين. هذا صوت التّغيير مُقابل صوت الحِفاظ على التّقاليد. ومِن ثمّ ردّد البابا مُستنكرًا “إذًا المُهم هو ما تؤمِن به، وليس ما علّمتهُ الكنيسة لمئات السّنين؟” وهنا نتذكّر قصّة شفاء المسيح لصاحِب اليد اليابسة في (لوقا 6:6-11). حين كان الكتبة يترقّبون المسيح ما إذا كان سيشفي في السّبت ويخرج عن المألوف. وأكمل البابا مشدّدًا على فكرة أن نضعَ حُدودًا ونبنيَ جُدرانًا، لكي نحميَ الكنيسة ونحميَ التّقاليد. فجاءه الردّ مُباشرةً من الكردينال بسؤالهِ “هل بنى المسيح جُدرانًا؟” وأشاد برحمة المسيح الّتي كانت تشمُل الخُطاة، وأضاف بأنّ “الرّحمة هي الدِّيناميت الّذي يهدِم الجُدران”.
ثمّ تطرّقا إلى الحديث عن ضرورة التّغيير، فقال الكردينال الله يَتغيّر كما أنّ كُلّ شيءٍ في الكون يتغيّر، بينما ثارَ البابا مُدافعًا عن أنّ الله لا يتغيّر أبدًا، وإلّا أين نجد الله إذا كان يتغيّر؟ أجابهُ الكردينال نجِدهُ في الرّحلة. وأتفق مع الكردينال بأنّنا إضافةً إلى صورة الله المُتجسّد في شخص يسوع المسيح، وما أخبرنا بهِ الكتاب المُقدّس عن الله، هناك بُعدٌ آخر للمعرفة؛ وهو التّعرُّف على الله من خلال خوض رحلة الإيمان معهُ. في هذه الرِّحلة نختبر الله بصورة أعمق، نختبر التّجسُّد الحقيقيّ في التّعامُلات، نختبر الكلمة المُقدّسة بصورة عمليّة.
ثمّ انتقلَ الحديث إلى حوارٍ ساخنٍ بينهما، فقد ثارَ الكردينال مُشدّدًا على وجوب مُعاقبة مُرتكبي الجرائم والتّعدّيات من رجال الكنيسة وحرمانهِم من الخدمة؛ وليس مُجرد الاكتفاء بالاعتراف. ووصف الاعتراف بأنّهُ مُجرّد كلماتٍ سحريّةٍ لن تشفيَ الجُرح، مُضيفًا بأنّ الاعتراف يُطهّر نفس الخاطئ؛ ولكنّهُ لا يُساعِد الضّحيّة. مؤكُدًا أنّ المُسامحة لا تكفي، بل يجب الوقوف بصرامةٍ حيالَ تلك التّجاوزات، وتنفيذ عُقوباتٍ كنسيّةٍ عليهم؛ وليس فقط نقلهم إلى كنيسة أخرى. وهُنا يُشير الكردينال إلى النتيجة السّلبيّة من الاتّكال على النّعمة الرّخيصة، والّتي تُسهّل علينا الوقوع في الخطأ، كوننا واثقينَ من سُهولة الغُفران. فالنّعمة الرّخيصة هي نعمةٌ دون توبةٍ حقيقيّة، نعمة دون تغييرٍ حقيقيٍّ داخليٍّ وخارجيٍّ. المُشكلة ليست في الاعتراف أو في مُرتكب الجُرم، المُشكلة ليست في الكنيسة، المُشكلة قابعة داخل الإنسان. فنحن حقيقةً لمْ نُدرِك المفهوم العميق للتّوبة في العهد الجديد، فالتّوبة حسب يونانيّة العهد الجديد هي Μετάνοία (ميتا نويا) وتعني تغيير الفِكر والقلب معًا، أيّ أن يُسيطِر الإنسان على عقلهِ ويتحكّم بهِ؛ وليس فقط مُجرّد ترك الخطيئة بالفعل، وإنّما تركها بالفِكر أيضًا. هُنا يكمُن التّغيير الحقيقيّ كما يُؤكّده الرّسول بولس «وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ» (روميّة 12: 2).
وفي مؤتمرٍ للكردينال في وطنهِ تحدّث أمام الجميع بشأن القضايا الاقتصاديّة، قاصِدًا أن يُعزّزَ الشُّعور بمُعاناة الفُقراء لدى الحُكومات والمُجتمعات؛ قائِلًا: “كُلّ مُجتمع مطلوبٌ مِنهُ أن يكونَ أداةً للتّحرُّر والنُّهوض بالفُقراء”، وانتقل المشهد إلى عبارةٍ رائعةٍ مكتوبةٍ على أحدى الجُدران العازِلة “ابنوا جُسورًا لا جُدرانًا”. نعم يا صاحِب الغبطة، هذا هو دور الكنيسة أوّلًا قبل الحُكومات. الكنيسة الّتي انعَزلت عن العالم وعن حاجته، وانكمشت في بُرجِها العاجيّ. نُريدُ مدَّ الجُسور للعالم الخارجيّ، نُريدُ التّواصُل مع الآخرين، نُريدُ أن نخرُجَ من جُدران الكنيسة وننخَرِط في العالم وحاجاتهِ. الملكوت لنْ يتوسّع بالجُدران بل بجُسور التّواصُل. العالم لنْ يَعرِف الله أبدًا ونحن نتعبّد داخل الكنيسة في انعزاليّةٍ تامّةٍ، بل سيعرفهُ من خلالِنا، ومن خلال أعمالِنا وسُلوكنا ومحبّتنا ووحدتنا. هذه هي إرساليّة شعب الله من خلال الكنيسة، جسد المسيح.
نقاطٌ جيّدةٌ في الفيلم
أولًا، استخدام مُقتطفات من أخبار التّجاوزات مثل الاعتداءات الجنسيّة والفساد الماليّ الّتي طالتِ الكنيسة، ولكن كانت لمُجرّد التّذكير فقط دون التّعمُّق فيها، أو مُناقشاتها على نحو جوهريٍّ، أو طرح حُلولٍ جذريّةٍ لها.
ثانيًا، الترّكيز على الجوانِب الشّخصيّة والإنسانيّة، مثل إظهار البابا فرنسيس كرجُلٍ بسيطٍ يُحِبُّ البيتزا وكُرة القدَم ورقص التّانجو، بالإضافة إلى شغفهِ الكبير تجاه الفُقراء وحاجاتهم، ووعيهِ الشّديد بدور الكنيسة الاجتماعي.
ثالثًا، الفيلم مُحاولة جيّدة وناجحة لتحسين صورة الكنيسة الكاثوليكيّة بعامة. على أمل أن يكون الفيلم سببًا في نهوض الكنيسة، وأن يكون الفيلم دعوةً للإصلاح الحقيقيّ، فالفيلم قد يكون صفّارة إنذار للكنيسة من الرُّوح القُدس.
رابعًا، مشهد اعتراف البابا بنديكتوس للكردينال فرانسيس، يُعبّر عن تواضعهما ومدى الشّفافية الّتي وصلا إليها، إذ يُصوِّر الرّجُلين بلا أقنعةٍ مُتحرّرينَ من مناصِبهم. ولكنّ الفيلم لمْ يُخبرنا بماذا اعترف البابا، لا سيّما أنّ هذا المشهد كان في سياق النِّقاش حول الاعتداءات الجنسيّة، كنوعٍ من الغُموض والتّشويق للمُشاهِد؛ بل أشار من بعيدٍ لتلك الحقائق الّتي حدثت بالفعل في الكنيسة. وهُنا نحن أمام مشهد الاعتراف الّذي يُجّسد الاثنين كبشرٍ عاديين مُذنبين يعترفون بخطاياهم، كما يقول يعقوب في رسالتهِ «اِعْتَرِفُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بِالزَّلاَتِ، وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ، لِكَيْ تُشْفَوْا. طَلِبَةُ الْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيرًا فِي فِعْلِهَا.» (يعقوب 5: 16)، ونتذكّر قول المسيح للجُموع في مشهد رجم المرأة «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ!» (يوحنا 8: 7)، فالكُلّ يُخطئ ولا أحد مُنزّه عن الخطأ «إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (رومية 3: 23). ولكن تُرى هل مشهد الاعتراف يُشكّل صكّ غُفرانٍ لخطايا الكنيسة؟
نقاطٌ لمْ تكُن جيّدة في الفيلم
أولًا، المُلفِت بأنّ الفيلم يَمُرُّ مرورَ الكِرام على القضايا اللّاأخلاقيّة الّتي نُسِبت للكنيسة من تجاوزاتٍ واعتداءاتٍ من بعض القادة الدّينيّين، دون الخوض في تفاصيلها أو مُحاولة نقاشِها بجديّةٍ. وهذا حمل الكثير من نُقّاد الفيلم بالتّصريح بأنّ الفيلم لمْ يكُن مُحايدًا حِيال تجاوزات الكنيسة.
ثانيًا، تجاهُل النِّقاش حول المُحاسبة بشأن التّجاوزات، بالإضافة لاختزال المؤسّسة الكنسيّة بكُلّ تاريخها في شخصيْن فقط. ويرى الكاتِب والباحث المصريّ “شادي لويس” في حديثهِ عن اختزال كُلّ التّجاوزات الّتي حدثَت في مشهد المُصالحة التّاريخيّة، وهو مشهدٌ إنسانيٌّ خفيف الظّلّ، حيث يجلس الباباوان ليُشاهدا مُباراة الأرجنتين أمام ألمانيا في كأس العالم، بحماسٍ طُفوليٍّ بريءٍ. ويبدو بأنّ فيلم “الباباوان” يُقدّم نموذجًا بديعًا لبروباغندا الإنسان السّاقِط، المفهوم الكاثوليكيّ الأصيل، في عملٍ قادرٍ على إثارة حزمةٍ من المشاعِر المُتناقِضة، وبعض الدُّموع والكثير من الضّحكات الّتي تغسِل القلبَ؛ وفي الوسط من كُلّ هذا، تُرسّخ ضمنيًّا المؤسّسة القائمة جماليًّا، وغَسْل أخطائها بهدوءٍ ولُطفٍ.
ويؤكّد الفكرة نفسها الكاتِب “حُذيفة حمزة” في مُراجعته للفيلم حيثُ يرى بأنّ الفيلم يختزل الكنيسة في شخصَيْن، يُعرِّيهِما أمامنا لنُشاهِد ذنوبهما وزلاّتهما، ثمّ يُطهّرهما، ثمّ يغفِر لهما وللكنيسة بالتّبعية. وكان من الأولى أن يتتبّع الفيلم الخطّ الّذي رسمهُ في البداية حول المسائِل الاجتماعيّة والسّياسيّة الّتي تتجاهلها الكنيسة، حتّى صارت تسبح في ملكوتٍ وحدها بعيدًا عمّا يشغل عامّة البشر. ويُؤكّد “حمزة” على قضيّة المُحاسبة ويرى بأنّ الكنيسة ما زالت قادرةٌ على أن تستمدّ شرعيّتها وسُلطتها من نفسها، دون أن تُبرِّر لأحد أيّ شيءٍ؛ أو أن تُدافِع عن نفسها وتدرأ الاتّهامات الموجّهة لها بجديّةٍ، أو تُعاقِب أعضاءها على ما اقترفت أيديهم من جرائِم. وأنّهُ يكفي أن يجلس على كرسيّ البابا رجُلٌ «مُنفتحٌ وحداثيٌّ» ليَغفِرَ للكنيسة، ويعود الشّعب المسيحيّ إلى أحضانِها.
ماذا نتعلّم من الفيلم؟
أولًا، كان يُعتَقَد قديمًا بأنّهُ لا يُمكِن أن يبقى باباوان على قيد الحياة، ولكنّ البابا بنديكتوس كسرَ هذه القاعدة تمامًا. فالتّنازُل عن السُّلطة وتداولِها في حياة القادة السّابقينَ، دون الالتزام بالتّقاليد والمراسِم القديمة أمرٌ يجب أن ينتبهَ إليه جميع القادة الدّينيّين، وأيضًا السّياسيّين. فقد يتطلّب التّغيير أو الإصلاح أحيانًا الخُروج عن المألوف.
ثانيًا، الإصلاح الحقيقيّ يبدأ بالحوار. وهذا الأمر رسالةٌ واضحةٌ في الفيلم، حيثُ تمّ تداول السُّلطة نتاجَ حوارٍ دراميٍّ طويلٍ. فنحن بحاجةٍ اليوم للحوار العقلانيّ الدّائم، الحوار الّذي يضعُ المصلحةَ العامّة للكنيسة وإرساليّتها فوقَ كُلّ التّقاليد أو المُسلّمات، أو الرّغبات الشّخصيّة والمناصِب الرّسميّة.
ثالثًا، الفيلم رسالةٌ قويّةٌ من وجهة نظري للكنيسة، ويجب أن نأخذَهُ بعين الاعتبار. فالكنيسة عامة بكُلّ طوائفِها يجب أن تنتبهَ جيّدًا لضرورة الإصلاح والتّغيير. أيضًا ثمة رسالةٌ واضحةٌ لجميع القادة الدّينيّين حِيال السُّلطة وتداولها، وضرورة التّغيير. تُرى هل الفيلم رسالة للبابا القادم؟ تُرى هل الفيلم رسالة توعيةٍ للكنائس الأخرى، كالأرثوذكسيّة والإنجيليةّ؟ إنّهُ الرّوح القُدس الّذي يُحوّل الكنيسة إلى التّطهير والإصلاح الذّاتيّ الدّائِم، حتّى تسير قُدمًا. الكنيسة بحاجةٍ إلى أن تستشعِرَ عمل الرُّوح القُدس فيها ومِنْ حولِها، حتّى تُتَمِّمَ إرساليّتها في امتداد ملكوت الله.
( شرف، بيروت، 2020)
المصادِر
تمّ اختصار الرّوابِط الإلكترونيّة
1- مقال: موقع ويكيبيديا عن الفيلم
https://en.wikipedia.org/wiki/The_Two_Popes
2- مقال: “حُذيفة حمزة”
3- مقال: “شادي لويس”
4-مقال Washington post :
5-مقال The New York Times :