صنع السلام يتشكّل ويُشكِّل في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة
فبراير 16, 2021

كليّة بلا حدود: نتكئ على إرث ونسير نحو المستقبل

بقلم برنت حمود
آذار/ مارس ٢٠٢١
الفصل التاسع

دخلَت كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة مع برنامج اللاهوت التكاملي، الذي أُطلِق حديثًا، مجالًا مؤسسيًا جديدًا حيث ينخرط جميع الطلاب في الدراسات اللاهوتيّة فيما يبقون ضمن أماكن إقامتهم. لقد قدّم زملائي فصولًا آنفًا تسرد الطرق التي دُفِعت بها هذه الرحلة الانتقالية بالإثارة، المعزّزة بالضرورة، والمرافقة بتحدّيات جديدة. من المؤكّد أنّ التطورات كبيرة، ولكن إذا فكّرنا في إرث كليّة اللاهوت المعمدانيّة كخدمة إقليميّة تُيسّر سبل المشاركة العالميّة لإعداد شهودٍ أمناء للكنيسة المحليّة، فسوف ندرك عندها كيف تتكئ هذه التغييرات الأخيرة في الواقع على أخلاقيات اللاحدود التي تتبنّاها الكليّة.

لطالما عزّزت كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة مجتمعًا إيمانيًا نابضًا يضمّ أعضاء من خلفيات متنوّعة في ديناميكيات تعلّم وشركة فريدة. ينبع هذا الإرث من هويّة مؤسسيّة ترتكز على إحساس قوي بالقيم المشتركة ورغبة جماعيّة للتواصل عبر الانقسامات، لا سيّما انقسامات الحدود السياسيّة.
لاستكشاف صفات اللاحدود في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة والنظر في كيفية نضجها أثناء فصل جديد من تاريخ الكليّة، دعونا أولاً نتفحّص الوقائع الملموسة للحدود السياسيّة في عالمنا الحديث. ففي نهاية المطاف، هي أكثر بكثير من مجرّد خطوط بسيطة على الخريطة ولكنّها معايير عميقة تحدّد كيفيّة تفاعل الأفراد والمنظّمات مع العالم.

يكاد يكون من المستحيل بالنسبة لنا أن نتخيّل عالمًا لا ترسمه حدود سياسيّة. فنجاح إنشاء كيانات سياسيّة محدّدة في القرنين التاسع عشر والعشرين قد أنتج نظامًا عالميًا للدولة القوميّة يهيمن على عالمنا على كلّ المستويات. الأرض ليست مجرّد مساحة يابسة بل هي خاضعة لسلطة دول سياديّة. وعلى المنوال نفسه، فإنّ الناس ليسوا مجرّد أشخاص، بل مواطنون ينتمون إلى وحدات سياسيّة. الدول القومية والجنسيّة، التي تدلّ على العضويّة القانونيّة في الدولة القوميّة، هي نتائج انتشار الحدود السياسية وأسبابه على حدّ سواء. إنّها ظاهرة تاريخية ذات انعكاسات هائلة.

قد يجادل البعض بأنّ الدول القومية تتباهى بجوهر عضوي، أنّ خطوط حدودها وسكانّها الوطنيين هم نتيجة لعمليّة طبيعيّة. قد يدّعي البعض الآخر أنّ الدولة القومية قد رُسّخت بعمل إلهي. وكتقييم أكثر منطقيّة، إنّ جميع الدول القوميّة هي منتجات رائعة للإرادة البشريّة أوجدتها العمليات الأرضيّة والتي قد تبعث الإلهام واليأس على حدّ سواء. السرد مهم، لكنّه بالكاد يغيّر صلابة الحدود السياسيّة اليوم.

وبعيدًا عن أبعادها الإقليميّة، فإنّ الحدود السياسيّة لها دور تكويني في تشكيل إحساس الشخص بالهوية بالإضافة إلى منح الحق حتى في امتلاك هويّة. أن تكون برازيليًا أو مصريًا أو أستراليًا أو حامل أيّ جنسيّة أخرى هو أمر ذو مغزى عميق وله أهميّة كبيرة. وما يعزّز ذلك هو وثائق الهويّة التي تصدرها الدولة والتي لها أهميّة لا يمكن إنكارها. بدون جنسيّة، لا يمكن للمرء إثبات أحواله الشخصيّة الرسميّة أو المشاركة في أبسط أنشطة الحياة. غير أنّ الجنسيّات ليست كلّها متشابهة. تُظهر الحدود شكلًا أساسيًا من أشكال عدم المساواة. لهذا السبب، فإنّ الشخص الذي يحمل جواز سفر فرنسيًا وشخصًا يحمل جواز سفر يمنيًا هما نوعان مختلفان فعليًا من الأشخاص يواجهان وجهين مختلفين من العالم.

لا غرابة في أنّ قصّة الدول القوميّة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي قصص دراميّة. يمكن سرد التواريخ الكاملة للمنطقة باتباع خطوط كيفية ترسيم الحدود ومَن الذي حدد طرق رسمها. وعلى الرغم من أنّ التركيبة السياسيّة للمنطقة قد تكون إشكاليّة، إلا أنّها مقبولة بصورة عامّة من قبل المواطنين الذين تكيّفوا إلى حدّ كبير مع شكل الأشياء في دولهم. تتواجد كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة ضمن الترتيب الحالي للحدود، ولها توجّه محدّد بشأن جغرافيّته.

وبرسالة مفادها خدمة الكنيسة في العالم العربي منذ أكثر من 60 عامًا، تمكّنت كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة من ترسيخ جذورها في لبنان دون أن تصبح لبنانيّة حصرًا. فرؤيتها تمتد عابرةً الحدود السياسيّة على نحوٍ يجعل أيّ مشاعر قوميّة علنيّة هشةً في أحسن أحوالها. والنتيجة هي أخلاقيات التعدديّة القوميّة التي تعزّز مجتمعًا إيمانيًا وتعلّميًا عالميًا.

تم نسج الموضوعات العابرة للحدود ضمن جميع أنحاء السرد المؤسسي لكليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة. قصّة أصلها هي قصّة جهد دولي بدأه أفراد ومنظمات ذوو تفكير عالمي. وفي العقود الستّة الماضية، رحبّت بطلابٍ من مجموعة من البلدان للدراسة واختبار نوعًا من البيت العائلي في الكليّة. بالإضافة إلى ذلك، لطالما تميّزت فرق أعضاء هيئة التدريس بمجموعة متنوعة من الجنسيات، وقد يسّرت الفعاليات الخاصّة تجمعات عالميّة تستضيف ضيوفًا من جميع أنحاء العالم. ببساطة، الحدود السياسيّة لا تظهر في الحمض النووي المؤسسي لكليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة.

بهدوء، وربما عن غير قصد، طوّرت الكليّة توجهًا محليًّا-عالميًّا يقرن بسلاسة مستويات عاليّة من المشاركة العالميّة مع الاهتمام العميق بالملاءمة المحليّة. هذا لا يعني أنّ كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة معادية للأمور القوميّة - على سبيل المثال، ثمّة تقدير كبير وصادق لتوفير لبنان الظروف التي تسمح للخدمة بالعمل - ولكن هذا يعني أنّه يتم قياس أيّ مفاهيم قوميّة. لاحظ التعبير الصامت لهذا المفهوم في وصف الكليّة لرؤيتها ورسالتها وخدمتها ولكن كيف تتم مناقشة الأبعاد العالميّة والإقليميّة والمحليّة للكنيسة بصورة صريحة وعلنية.

كمجتمع مُعدّ لخدمة الطلاب بأمانة من خلفيات قوميّة مختلفة (يعيش العديد منهم في مواقع أخرى غير أماكن جنسيتهم الفعليّة)، تدرك كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة الحاجة إلى الخدمة عبر الحدود السياسيّة على نحوٍ منتبه للواقع المحلي داخل الحدود. إنّه موقف جماعي يحتضن الكنيسة كجسدٍ عالمي بتموضع عالمي من خلال تعبيرات مسيّقة. عظيمة هي حقيقة أنّ ملكوت الله لا يتوافق مع بنيات عالمنا المنظّم سياسيًا التي تتجلّى عبر شتّى أشكال الحواجز.

حقيقة أنّ إرساليّة كليّة اللاهوت تمتد عبر الحدود تعني أنّه عليها دائمًا التعامل مع الحدود. وحتّى زمنٍ ليس ببعيد، كان تسجيل الطلّاب في برامجها يتطلّب إدارة دقيقة لأشياء مثل أجوزة السفر وطلبات التأشيرات وتصاريح الإقامة. ساعدت حدود لبنان المفتوحة نسبيًا الكليّة إلى حدّ كبير على مرّ السنين، وكان الله أمينًا ليفتح الأبواب في مناسبات لا حصر لها حتّى يتمكّن الطلّاب من الدراسة داخل حرم الكليّة. ومع ذلك، فإنّ عدد المرّات التي أُحبِطت فيها التطلّعات الأكاديميّة بسبب تعقيدات الحدود ليس ضئيلاً.

في السنوات الأخيرة، أصبحت مهمّة جلب الطلاب إلى لبنان أكثر صعوبة. حتّى قبل أن يفرض فيروس كورونا المستجد قيودًا صارمة على السفر عالميًا، كانت الحدود السياسيّة تزداد تقييدًا على نحو متزايد. من نواح كثيرة، كانت أحداث عام 2020 تذكيرًا قويًا بأنّ الحفاظ على برامج متعدّدة الجنسيات في عالم تشتد فيه ضوابط الحدود قد يصبح غير قابل على الاستمرار.

عندما تمّ اتخاذ القرار بنقل كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة إلى مؤسسة تعليمية عابرة للقوميّة بالكامل تصل إلى الطلاب في أماكنهم، كان لديها آنفًا البنية التحتيّة والخبرة في برامج التعلّم عبر الحدود للبناء عليها في تجربتها الجديدة.

شكّلت النماذج المستندة إلى الشهادة في الخدمة عبر الإنترنت وبرنامج الماجستير في العلوم الدينيّة لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حجر الأساس للسماح لطلاب كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة بالتسجيل في البرامج دون الحاجة إلى الإقامة في لبنان. فتح هذا الشكل من التعلّم الافتراضي الأبواب أمام التعليم اللاهوتي ووسّع أبعاد اللاحدود حيث أصبحت الكليّة متاحة للطلاب في أيّ مكان في العالم. وبات النهج الجديد الآن معيارًا جديدًا.

لقد تم بعناية تقديم الأسباب المنطقيّة الكامنة وراء البرنامج المدمج في بكالوريوس في اللاهوت الناشئ لعدّة أشهر، ولكن مزاياه بدأت للتو في الظهور. إحدى الفوائد الرئيسة هي الطريقة التي يعمل بها البرنامج على الحدّ من تعقيدات الحدود السياسيّة. عندما تمّ قبول المجموعة الأولى في البرنامج المدمج في اللاهوت هذا العام، التحق الطلّاب من مواقع تمتد من أوروبا الغربيّة والخليج العربي وشمال إفريقيا والشرق الأوسط على الفور في برنامج لاهوتي كامل دون مواجهة متاعب الحصول على وثائق السفر، وتقديم طلبات الإقامة، وطلبات الحصول على تصاريح، أو تحمّل تدقيق الأمن العام (خدمات الهجرة اللبنانيّة).

في تطّور مفاجئ، اكتشفنا أنّه من خلال تلبية احتياجات الطلاب خارج الحدود، جعلت الكليّة نفسها في متناول الطلاب ضمن حدودها الخاصة. عام 2021 شهد أعلى معدّل تسجيل للطلّاب اللبنانيين على الإطلاق في تاريخه!

من المهم هنا التأكيد على أنّ خطوة كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة الإضافيّة هذه نحو نوع من اللاحدود لا تشير إلى أي تعدٍّ على قيمة المكان وأهميته. على العكس من ذلك، فإنّ التحرك للعمل خارج الحدود السياسية هو بمثابة احترام متجدّد للمكان.

المكان أساسي للتجربة البشريّة وعنصر أساسي في الديناميكيّة العلائقيّة بين الله والناس. على الرغم من أنّ الحياة أصبحت افتراضيّة بصورة متزايدة، إلّا أنّ الناس ليسوا كذلك. لذلك، يجب أن يظلّ أيّ جهد لخدمة الكنيسة العربية متيقظًا للتجارب الفريدة داخل الأماكن. في عالم يحكمه نظام الدولة القوميّة، تشكّل القوى السياسيّة الوطنيّة دائمًا الطريقة التي نعيش بها الحياة في بيئاتنا. هذه وقائع معقّدة للمجتمعات الدينيّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وقد أخذت كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة على عاتقها مهمّة إعداد الطلّاب ليشهدوا داخل هذه التعقيدات.

وفي طليعة تفكيرنا، الاعتراف بأنّ موقف اللاحدود لا يؤدّي إلى الانسحاب من أماكن العالم، ولكنّه بالأحرى يقود إلى الاهتمام الجاد بالانخراط في جميع أنحاء العالم. إنّ أي ميل للتركيز على سياق قومي واحد وتجاهل الآخرين هو ببساطة أمر غير مقبول. لكي تنجح كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة في الموسم المقبل، يجب أن تتجنّد لتحمل تواجدها عبر الحدود إلى أماكن طلابها. وكما شاركنا في الفصول السابقة، سيكون التعاون حاسمًا لتحقيق هذا النجاح.

ورغم كونها عابرة للحدود القوميّة، فإنّ الكليّة لم تلغِ تقليدها في جمع الناس بأي حال من الأحوال. سيسافر الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وسيتم عبور الحدود! فإنّ فترات الدراسة المحدّدة داخل حرم الكليّة سنويًا، مثل تلك التي تحدث في برنامج الماجستير في العلوم الدينيّة لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والزيارات المنتظمة التي ستقوم بها فرق الكليّة لمجتمعات الطلاب، ستوفّر جميعها فرصًا مهمّة لإثراء التفاعل الشخصي. إن حدوث هذه الأمور في كلّ من لبنان وكذلك في سياقات الطلاب الخاصّة يجعل عناصر برنامج اللاهوت التكاملي أكثر تنوعًا وحيوية. لم يتم التخلي عن الإرث الثري للبرنامج التعليمي داخل حرم الكليّة؛ لقد تمّ تكييفه مع الحقائق الجديدة لتخدم على نحو أفضل رسالتها التأسيسيّة.

تنتقل كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة فعليًا إلى منطقة جديدة (عابرة للقوميّات)، ومن المحتمل أن تغتني المقرّرات المستقبليّة من خلال التأمّل في إرث الكليّة العابر الحدود. في الواقع، التغييرات الأخيرة ليست سوى تطورات مؤدية إلى 60 عامًا أخرى طور التكوين. منذ تأسيسها وحتّى المستقبل، تسعى كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة إلى أن تكون مجتمعًا موحدًا يعدّ الناس للشهادة للمسيح في أماكنهم. أصلّي أن يستمر الله في إلهام توجهنا للانخراط الذي ينطلق من مكان تواجدنا إلى أي مكان خدمة الكنيسة حيثما وُجدَت.

* هذا هو الجزء التاسع من سلسلة مقالات حول اتجاهنا الجديد.