مسؤولية المثقف المسيحي
بقلم القس د. غسان خلف
كلمة أُلقيت في حفلة تخريج كلية اللاهوت المعمدانية العربية في المنصورية، لبنان، يوم الأَحد في 21 حزيران (يونيو) 2015
فيديو الكلمة متوفر على هذا الرابط
يكثر الحديث هذه الأَيام في جميع أَنحاء العالم العربي عن مسؤولية المثقفين في إنهاض الأُمة من رقادها على جميع الأَصعدة: الاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، والتكنولوجية، وبالأَخص على الصعيد الديني. ويرجع السبب في وضع المسؤولية على كاهل المثقفين إلى صرف معظم الحكَّام العرب النظر ذهنيًّا وإراديًّا عن الرغبة في إنهاض شعوبهم، وإلى غياب الشعوب العربية عن إدراك العجز الذي تنوء تحته بسبب الأُمية، والجهل، والفقر، والتهميش، وانعدام فرص التقدم والازدهار، وممارسة الحرية. وهذا الواقع يُرخي بثقله على المثقفين وتتوجه الأَنظار إليهم كعامل فاعل في تغيير الأَوضاع المؤلمة التي تتهاوى فيها شعوبنا.
وينعكس هذا الواقع في بعض البلدان على حياة الكنيسة لأَنها من قماشة الشعب الذي تنتمي إليه. وهذا يجعلنا ننتقل، والمشابهة واقعة، من مسؤولية المثقف في السياق العَلماني عن إنهاض شعبه إلى مسؤولية المثقف في السياق الكنسي عن إنهاض مجتمعه، أَي الانتقال إلى السياق الذي ينتسب إليه خريجونا اليوم.
عندما أَقول “المثقفين”، وأَعني بهم الخريجين، فهم قد تأَهلوا بالعلم والمعرفة اللاهوتية، والكتابية، والكنسية. وهذا هو السبب الذي يجعلهم مسؤولين في المجتمعات الكنسية على إنهاض هذه المجتمعات من رقادها وتقاليدها المتحكمة وتراجعها، وبث روح القيامة، والانتعاش، والتقدم فيها، وتغيير العالم برسالة المسيح النهضوية.
والآن ما هي بالتحديد مسؤولية المثقفين المسيحيين وبخاصة خريجي كليات اللاهوت، وقد أَصبحوا بشكل ما مرتبطين بالخدمة المسيحية وإن لم يكن رسميًّا، ومن المؤمَّل أَن يُصبحوا فاعلين فيها في الحال أَو مستقبلاً:
إن مسؤولية المثقفين المسيحيين الأولى هي إعادة الشهادة ليسوع والمشاركة بالإنجيل إلى المقام الأول في خدمة الكنيسة
والخطوة الأُولى لتحقيق ذلك تكون بصياغة العبارات التبشيرية الواردة في العهد الجديد، أَو التي نشأَت في تاريخ الكنيسة، صياغة جديدة تتلاءم مع حساسية الفكر المعاصر. فبدلاً من عبارة “صيد الناس” و”ربح النفوس” اللتين قيلتا في سياق خاص، ويصعب تعميمُهما، لنستعمل كلمة الشهادة ليسوع ومشاركة الخبرة الروحية بيسوع مع كل بشر “من الجياع والعطاش” (مت 5: 6). إذا مرَّ في بال الكنيسة في الماضي، بسبب التوسع الاستعماري للممالك المسماة مسيحية، أَن تسعى إلى ربح ملايين من البشر إليها، بأَي وسيلة متاحة، فهذا غير مسموح وغير مقبول في العصر الحاضر. وهنا يأْتي دور المثقفين المسيحيين الذين يقلبون المعادلة، فيقولون: نبذل أَنفسنا في سبيل البشر حبًّا بهم، ومثالُنا ربنا يسوع، وهكذا عوضَ أَن نربحَهم نحن، نساعدهم على أَن يربحوا هم المسيحَ ويربحَهم المسيحُ.
ثم تقع المسؤولية على الخريجين المثقفين من جهة رفع المستوى الثقافي لشعب الكنائس على الصعيد التعليم المسيحي
فمن تعلم عليه أَن ينقل علمه لغيره. تبلغوا وبلغوا. وما نسمعه نودعه أُناسًا أُمناءَ (2تي 2: 2). الاسم الأَول للمؤمنين كان “تلاميذَ يسوع”. التلميذ يتعلم. لذا يقول يسوع بما معناه: إن كان أَحدٌ من الكتبة (وهم درسوا كتب العهد القديم) يتتلمذ على يدي في ملكوت الله يشبه صاحب ثروة يُخرج من كنزه لآلئ جديدة وقديمة (مت 13: 52). هناك رعاة يتراجعون ثقافيًّا ليُمسوا في مستوى شعبهم، بينما المطلوب أَن يرفع الراعي شعبه إلى مستواه. من يرغب بالاستئثار بالسلطة يُبقي شعبه جاهلاً، ومن يرغب أَن يتكاثر القادة في الشعب يعمل على تثقيف شعبه، فاعملوا على تثقيف شعوبكم تُمدحون!
يقول الشاعر:
ففُز بعلم تعش حيًّا به أَبدًا الناس موتى وأَهل العلم أَحياء
ومن مسؤولية المثقفين المسيحيين الذين يتخرجون من كلية اللاهوت أَن يتمكنوا من فهم الكتاب المقدس ومن مبادئ شرحه شرحًا صحيحًا
لقد انتهى عهد الهواية في البحث في أُمور الكتاب وجاء عهد الاحتراف. وفي هذا الباب على المثقف المسيحي أَن يكون مرجعًا في الحق الكتابي، يفسر كلمة الله بموضوعية واستقامة قدر استطاعته (2تي 2: 15). إياكم أَن تشعروا أَن قولَكم لمن يسأَلُ: أُجيبُك بعد درس المسأَلة، ينم عن ضعفٍ. إن التسرع في الإجابة هو الضعف أَما الإجابة بعد الدرس فتنمُّ عن القوة. بعد التخرج ليس كما قبله. لقد استلمتم مفاتيح المعرفة، فلا يجدر بكم أَن تبقوا في دهاليز الجهل، وحيرةِ مَن لا علمَ عنده. المتخرج من كلية لاهوت يتكلم كلامَ الواثق من علمه، فلا تردُّدَ أَو تلعثُمَ في خطابه، بل حجةٌ، وإثباتٌ، ويقينٌ، وثقة بما يقول ويفعل.
ومن مسؤولية المثقفين المسيحيين أَن يكسروا التقاليد المتحكمة بالفكر المسيحي، ويقاوموا تفسير الكتاب المقدس تفسيرًا ظاهريًّا (يو 7: 24)
على المثقفين أَن يعملوا من جديد على فحص ما يُسمى مسَلَّماتٌ، فيمتحنوا كلاًّ منها ويتمسكوا بالحسن (1تس 5: 21). وفي هذا المجال ينبغي على من يعرف أَن يحمل صليبه ويشق الطريق لغيره، أَي أَن يكون رائدًا في مجالات الحاجة إلى التغيير. وهذا ما كانه يسوع، وإرادة الله المعلنة في العهد الجديد.
كان يسوع ثائرًا بحق، وحقق تقدمًا في تغيير ثقافة تلك الأَيام، ولا تزال تعاليم ثورته مطلبَ الأَجيال عبر التاريخ والجغرافيا. سأُعدد بعضًا من مبادئه الثورية:
- المناداة بعلاقة بالله تتجاوز مفهوم السيد والعبيد إلى مفهوم الأَب والبنين.
- المناداة بأَن الشريعة وُضعت لخير الإنسان لا الإنسان للشريعة.
- المناداة بالمحبة والتفاوض والسلام والمسامحة قدر المــُستطاع عوضًا عن الكراهية والمقاطعة والحرب والانتقام لأَتفه الأَسباب.
- المناداة بفصل الدين عن الدولة، وبأَن تبقى الكنيسة ضمير العالم.
- مكانة واحدة للرجل والمرأَة في بيت العبادة وممارسة المواهب والحياة العامة، ولا تمايز سوى بالمهام، فلكل من الجنسين طبيعته ودوره.
- المناداة بالمساواة في الكرامة بين طبقات المجتمع ولا أَفضلية لغني وقوي على فقير وضعيف في حضرة الله وفي الحياة العامة.
- المناداة بأَن القيادة تضحية، فالقائد لا ليُخدَمَ بل ليخدِمُ.
- الجرأَة في قول الحق في وجه المسؤولين في الشعب دينيين كانوا أَم مدنيين.
- المناداة بإعلان الحق كطريق وحيد نحو الحرية الحقيقية. فمعرفة الحق تحرر.
هذه المبادئ التي أَعلنها يسوع يجب أَن تبقى خريطة طريق أَمامنا في سعينا لنشر ملكوت الله في العالم.
ومن مسؤولية الخريجين المثقفين ورعاة المستقبل وقادته أَن يُعلِّموا عن دور المؤمن المسيحي في حياته الاجتماعية والوطنية
نربى في كنائسنا على أَن سيرتنا هي في السماوات، أَي أَن مواطنيتَنا سماوية ويُردَّد علينا كلامُ ربنا: مملكتي ليست من هذا العالم (يو 18: 36). ولا ننتبه إلى أَن المسيحيين لم ينسحبوا من الحياة الاجتماعية والوطنية في زمن العهد الجديد، بل بقوا يمارسونها بكل أَمانة. فقواد المئة الضباط في الجيش الروماني الذين آمنوا بقوا في الجندية، ولا توجد ملاحظة توجب تركهم الجندية. وثيوفيلُس الذي كتب إليه لوقا إنجيله والأَعمال، كان يحمل لقب “العزيز” (لو 1: 3)، أَي صاحب العزة، القدير Kratos، وهو لقب الولاة زمن الرومان على غرار “العزيز فيلكس” الوالي، بقلم لوقا نفسه (أَع 24: 1-3).
لذا على المثقفين أَن يوقظوا المؤمنين إلى دورهم الاجتماعي والوطني، فلا ينسحبوا من العالم وشؤونه لأَنهم الأَولى بخدمته في هذه المجالات، ومن يمارس الحكم هو بتعبير بولس “خادم الله” (رو 13: 4). على المؤمن أَن يكون واعيًا إلى أَن صوته في الانتخابات له وزن وقيمة، وأَن مشاركته في مظاهرة لاعنفية تطالب بالعدل للمظلومين، والحرية للمستعبدين، لها وزن وقيمة. ومطالبته مع المطالبين بحقوق الإنسان وتحقيق السلام، لها وزن وقيمة. قال أُغسطينُس إن المسيحي يعيش في مدينتين، السماوية والأَرضية، وتبرز حكمته في كيف يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله (مت 22: 21). قال ربنا في صلاته: لا أَسأَل أَن تأْخذهم من العالم، بل أَن تحفظهم من الشرير (يو 17: 15).
أَمــَّا دورنا الرئيس كمثقفين فهو أَن نعمل بكلمة ربنا “فنعمل أَولاً بمبادئه وثم نعلمها” (مت 5: 19)
وهذا يعني لنا أَن تكون حياتُنا وما ننادي به منسجمان متناغمان. سأَل ربنا سائليه، وهذه عادته يُسأَل فيَسأَل، قال: لمن “الصورة والكتابة” على قطعة النقد؟ قالوا: لقيصر (مت 22: 20-21). كانت الصورة على جهة من القطعة النقدية، والكتابة على الوجه الآخر، وكلتاهما كان يمثل القيصر الواحد. ومن باب المشابهة علينا أَن نكون من جهتَينا قطعةَ النقد الواحدة “الصورة والكتابة” للمسيح، لا الصورة للمسيح والكتابة للعالم وشهواته.
ثمة فجوة بين مُثُلنا وواقع تصرفاتنا علينا أَن نُزيلَها. وإذا فعلنا سيُتنج هذا الالتئام قوةً روحية وتأْثيرًا مباركًا في حياتنا، وتُصبح مواعظنا المنبرية ذاتَ تأْثير يدخل إلى “مفصل النفس والروح” بسبب جو القداسة الذي يغلف حياتنا. هذا لا تراه أَنت، ولكنَّ من يسمعك يراه.
وفي مجال ترجمة الكتاب المقدس وما يتعلق بهذا الموضوع، قيل: إن أَفضل ترجمة للكتاب المقدس ننشرُها هي في سيرة حياتنا، أَي أَن نسلك بموجب مبادئ الكتاب، وحيث إن ترجمات الكتاب تُنقَّح بين الفينة والفينة علينا بتنقيح حياتنا المسيحية باستمرار تصحيحًا لخطأٍ وتعديلاً لمسار.
وأَخيرًا على المثقف أَن يكون صاحب رؤيا في خدمته الربَّ، ويقوم بالتخطيط اللازم في سبيل تحقيقها
لا يجدر بالمثقف المسيحي أَن يُدير حياتَه أَو خدمتَه بطريقة عشوائية بلا تخطيط، وبطريقة قصيرة النظر، يومًا بيوم ولحظة بلحظة، بل عليه أَن يأْتي برؤيا كبيرة، بحلم كبير، يليق بإله نعبده كبيرٍ. ثم بالاتكال على الإله الكبير يضع مخططًا كبيرًا بعيدَ المدى، لثلاث سنوات أَو خمسٍ، وبعونه تعالى يسعى إلى تحقيقه.
وإيَّاك ثم إيَّاك أَن تتبنى مقولة “الرب يأْتي غدًا” إذًا لماذا نخطط، وتقول مع القائلين: “لنأْكل ونشرب لأَننا غدًا نموت!” أَو أَن تكون من الذين يعتقدون أَن الكنيسة “فقرة معترضة” لا أَساسية في مشروع الله الكوني لخلاص جميع الشعوب، فتتخلَّى عن المأْمورية العظمى التي أَطلقها الرب حين صعوده: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم” (مت 28: 19).
أَيها الخريجون المثقفون، لا يدُر في خَلَدكم أَن الكنيسة وعملَ الله من خلالها إلى تراجع، بل هي إلى توسع جغرافيًّا، وإلى تزايد في العدد كل يوم (أَع 2: 47). لا تتقوقعْوا ويخور عزمُكم ويخمُد نشاطُكم بسبب أَن بعضهم يفسر أَننا في عصر كنيسة لاودكية والكنيسة فاترة وهاجعة وهامدة، بل ارفع نظرك وتطلع إلى الحقول، فإنها ابيضت للحصاد، على حد قول الرب يسوع نفسه (يو 4: 35). وكنيسة المسيح عاكفة من يوم أَسسها ربنا على قطاف الحصاد. انظروا إلى الكنيسة الناهضة في كل دول أَميركا اللاتينية وأَميركا الشمالية، والكنيسة الناهضة في أَفريقيا السوداء، والكنيسة الناهضة في جنوب شرق آسيا وخذوا إندونيسيا مثلاً، والكنيسة الناهضة في الصين وكوريا وبنغلادش، والكنيسة الناهضة في روسيا وأُوكرانيا ودول شرق أُوروبا. افتح يا رب عينَيِ الغلام!
وبالتالي ماذا عن عالمنا العربي وشرقنا الأَوسط، أَلا نتشجع حينما نرى كرة الثلج تتدحرج وتكبر، ونرى النور الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى ديارنا، وسيبدد الظلام والظلامية. إن العين التي تلاحظ ما قد جرى خلال العقدين الأَخيرين يمكنها أَن تتنبأَ بما سيجري في العقود الثلاثة القادمة. إن اسمَ يسوع وذكرَه يهزان الضمير، ولا يمكن لأَحد أَن يبقى في اللامبالاة. صدق من قال إن القرن الحادي والعشرين هو قرن يسوع المسيح في الشرق الأَوسط.
وهنا أَقول يا إخوتي الخريجين المثقفين، أَولاً: احلموا أَحلامًا كبيرة، فإن الانتعاش الحاصل في منطقتنا لا تصدقه عين أَو أُذن! هل تولد أُمة دَفعة واحدة؟ كيف لا وأَن المولِّد، يقول الرب (إش 66: 8-9). وثانيًا: خططوا لأَهداف بعيدة المدى، كما يسوع فعل: تناولون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودًا في أُورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أَقصى الأَرض (أَع 1: 8). من أُورشليم إلى أَقصى الأَرض، أَلا يُعَدُّ هذا تخطيطًا بعيد الأَمد؟
إخوتي الخريجين الأَحباء أَختم كلامي لكم وللجمهور بهذه الأَبيات من الشعر التي كتبتها لمناسبة فردية مشابهة أُطلقها اليومَ عامة:
ضجَّ الحضورُ وكادَ الحفلُ ينبَهرُ قالوا: هنيئًا قضيبُ النَّصرِ والظَّفرُ
لما مضوا يردون العلمَ مِن ظمأٍ كلُّ العوائقِ ذَلَّتْ وانجلى العَسِرُ
لا تذكروا سَهرًا في الدرسِ أَتعبكم بعد النجاحِ يَطيبُ الليلُ والسَّهرُ
إنَّ الحياةَ لأَصحابِ النُّهى قِيَمٌ تُقضى كِفاحًا ولا يَسْري بها الضَّجرُ
أَلعزمُ أَيدٍ على المحراثِ مندفعٌ والشوقُ فجرَ شعاعِ الشمسِ يَنتظرُ
إن الوجودَ مبـاراةٌ يفوز بها من يزرعُ الخيرَ في الدُّنيا، ويُقْتَدَرُ
ليس الفخارُ بما نِلنـا ومغْنَمِنا بالفضلِ والجُودِ مِ المنَّـانِ نفتَخِرُ
تبلى الكنوزُ ويبقى وجهُ مُبدِعِنا نرنـو إليه فمنه النورُ ينهَمِرُ