بقلم مرتان عقّاد
الخبر
أفادت وسائل الإعلام العالمية في شهر تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 عن حدوث اضطرابات واحتجاجات جديدة في العراق، مقرونة بردود فعل عنيفة من قِبَل الحكومة والأجهزة الأمنيّة التي أودت بحياة الكثيرين. ويُقَدَّر عدد الوفيات بأكثر من 250 شخصًا اعتبارًا من بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر.
وليست هذه المرّة الأولى التي يشهد فيها العراك احتجاجات كهذه. فلقد شهدت البلاد منذ عام ٢٠١١ موجات من الاعتصامات ذات المطالب الاجتماعية والاقتصادية، والمنتفضة ضدّ سوء الحوكمة والفساد المستشري.
ما يميز الاحتجاجات هذه المرّة هو عدم هيمنة التيّار الصدري الشيعي عليها. كما أنّها ليست ثورة شيوعيّة ضد النخبة، كما ولم تبرز فيها أيديولوجيّة الإسلاميين السُنّة.
التحليل
هذه الاحتجاجات دوافعها اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى. ولم تبرز لها قيادة واضحة بل معظم المتظاهرين هم شباب عاطلون عن العمل. وتُعَد وسائل التواصل الاجتماعي، كما شاهدنا في السنوات الأخيرة، أساسية في تأمين التواصل بين الثوّار. الملفت أنّ هذه المميّزات تصف أيضًا الاحتجاجات المماثلة في لبنان التي اندلعت في 17 تشرين الأوّل/أكتوبر، على الرغم من أنّ الاحتجاجات في لبنان جذبت على نحوٍ مميّز مشاركة أُسَر بأكملها مع أطفالها.
الاحتجاجات في العراق – كما هو الحال في لبنان – تزداد حدّة في مطالبها، حيث وصلت إلى حدّ المطالبة بإسقاط الحكومة. أمّا في العراق فقد أُحرِقت مقرّات للأحزاب السياسية. غير أنّ الخبراء يحذّرون من خطأ رؤية هذه الأحداث في العراق من خلال عدسة طائفية، على الرغم من أنّها تحدث بصورة أساسية في المناطق الشرقيّة ذات الأكثريّة الشيعية. ومنذ سقوط نظام صدّام حسين، كانت الأحياء السنية هي التي أعربت على نحو أساسي عن استيائها السياسي. أمّا الآن، فإنّ الطابع الشيعي الذي يسيطر على هذه الاحتجاجات يتعلّق بالحالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة المتدنّية الطاغية على هذه المناطق الشرقية.
وبالتالي، فإنّ الاحتجاجات التي نراها في هذه الأيّام هي عابرة للأيديولوجيّات الدينيّة، وهي فعليًا بسبب الواقع الاجتماعي والاقتصادي. وقد يكون هذا النوع من الاحتجاج الأكثر خطورة على الحكومات القائمة. هكذا بدأ “الربيع العربي” في تونس في عام 2010. ومع تفشي الفساد في معظم البلدان العربية بعد الثورات العربيّة، وقلّة ما يمكن إظهاره من الإصلاحات الحقيقيّة، يبدو أنّنا نشهد اليوم ولادة “ربيع عربي” جديد. وتشير بعض وسائل الإعلام العالمية إلى ذلك أيضًا. مع الفارق بأنّ هذه المرّة قد تكون الثورات ملقّحة ضدّ الاستيلاء الأيديولوجي الديني من قِبَل الحركات الإسلامية كما من قِبَل النُخَب الاجتماعيّة. وقد يكون هذا النوع من الانتفاضات ما يجب أن نتوقّعه في الدول الخارجة من الحرب وغير القادرة على التعافي من الدمار بسرعة كافية.
وكلّ هذا لم يكن غير مُتَوقَّع على الإطلاق. ففي مدوّنتنا لشهر كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي بشأن العراق، أعربْتُ عن شكوك جدية في أنّ رئيس الوزراء المنتخب آنذاك، عادل عبد المهدي، سيكون قادرًا على تنفيذ الإصلاحات التي تمس الحاجة إليها والتي كان يدركها بشدة. تم تنصيب عبد المهدي كرئيس لوزراء بلاده منذ عام تقريبًا، في 21 كانون الأوّل/أكتوبر 2018. غير أنّه قبل أسابيع قليلة من ذلك التاريخ، كان قد اعترف بأنّ بلاده ليست مستعدة للإصلاحات التي ستكون ضرورية لقبوله منصب رئاسة الوزراء، أي الابتعاد عن الرَيْع الاقتصادي، واللامركزية في الحكم، ومكافحة الفساد المستشري، وإصلاح المؤسسات العامة، وفرض حكم القانون.
لكن عبد المهدي انتهى بقبول المنصب. فإمّا أنّه اعتبر نفسه قادرًا على إحداث الإصلاحات من الداخل، أو أنّ إغراءات السلطة والمال قد تحكّمت به منذ البداية وقادته إلى هذا القرار. في كلتا الحالتين، يبدو الآن أنّه أعلن استعداده للاستقالة إذا تمّ التوافق على بديل.
خواطر لاهوتية وانعكاسات إرسالية
الظلم الاقتصادي والتوزيع غير العادل للموارد ليسا بالأمر الجديد في تاريخ البشرية. يحتوي العهد القديم على الكثير من المقاطع التي تدين شعب الله على لسان أنبيائه. “هذه مدينةٌ تستوجبُ العِقاب،” نقرأ في سفر إرميا الفصل السادس، “لأنّها ملآنة بالظُّلم. ينبع منها شرُّها كالبئر ينبَع منها الماء. فيها أسمعُ بالعُنْف والسَّلْب، وأرى المرضَ والجروحَ كلّ حين” (الآيات ٦-٧).
عندما يملأ الظلم الأرض، من الطبيعي أن تبرز الانتفاضات الشعبية. ولكن إذا تحوّلت هذه الانتفاضات إلى عنف شامل، فغالبًا ما يحدث ذلك على حساب الأقليّات الاجتماعيّة، بما في ذلك الكنيسة. ويُشار إلى أنّ غالبًا ما تستولي الإيديولوجيات المتطرّفة على الحراك الشعبي، كما يمكن لمصالح السياسات الخارجية لدُوَل الغرب أن تسرق هذه الحركات بعيدًا عن هموم السكّان المحليّين.
علينا أن نشدّد على أهمية حماية الطبيعة المحلية والوطنية للمظاهرات الشعبية وذلك لأنّ التدخل الأجنبي غالبًا ما يؤذي الأقليات العدديّة المحليّة، ولا سيّما المسيحيين منهم على المدى الطويل. غير أنّ للكنيسة المحلية مسؤولية هائلة. يدعو الله شعبه في العهد القديم لأن يكون متميّزًا عن الأمم المحيطة وأن يعكس عدل الله وحقّه في الأرض. يشتكي النبي إرميا من “أنّهم جميعًا مِن صغيرهم إلى كبيرهم يطمَعون بالمَكْسب الخسيس، ومِن النبيّ إلى الكاهن يمارسون أعمال الزّور … يقولون: سلامٌ سلامٌ، وما من سلامٍ” (6: 13-14). هذا تحذير لشعب الله في جميع الأوقات. إذا لم يطلقوا صوتًا نبويًا يطرح نموذجًا بديلاً لمجتمع عادل ومتساوٍ، فلا أمل للمجتمع ولا للكنيسة.
تحتاج الكنيسة إلى تقديم نموذجٍ مختلف عن النموذج السائد – سواء في العراق أو في لبنان، أو في أيّ مكان آخر في الشرق الأوسط. حان الوقت للكنيسة أن تطلِق هذا الصوت، قبل أن تتدخّل الأيديولوجيّات المتطرّفة وقبل أن يتحكّم أي حزب سياسي بمسار الثورة الشعبيّة.